في صحافة أيام زمان كانت تقع الكثير من الأخطاء الطباعية “الجسيمة ” غير المقصودة طبعاً.. بسبب مكائن الطباعة البدائية التي كانت تعتمد على ترتيب مقاطع الحروف من جهة، وإهمال بعض العاملين والفنيين من جهة أخرى, وهذا ما كان يحرج إدارات الصحف ويؤدي الى حدوث مشاكل كبيرة أو أزمات بينها وبين المسؤولين والشخصيات والأحزاب وشرائح المجتمع الأخرى، تُحل أحياناً بأسلوب ديمقراطي حضاري أو دبلوماسي، وأحيانا تتطور المشكلة لتصل الى التهديد العنفي أو الهجوم واقتحام مبنى الجريدة واستهداف العاملين فيها بالسلاح الأبيض أو الناري، الأمر الذي ينتهي لاحقا باللجوء الى الحل التوافقي والتعويض المالي عن طريق الفصل العشائري كما يحصل في أيامنا هذه، وذلك أضعف الإيمان !.
“الأخطاء المطبعية” كثيرة لا حصر لها، والوسط الصحفي والثقافي غالباً ما يستذكر بعضها ويتندر بها في مناسبات أعياد الصحافة أو الاحتفالات الخاصة بتأسيس هذه الصحيفة أو تلك المجلة مع قيام المحتفين بعقد مقارنة بين صحافة أيام زمان ووسائل الطباعة البدائية التي كانت عليها، وما وصلت إليه اليوم من صحافة إلكترونية واستخدام مفرط للتكنلوجيا الحديثة في طبع ما لذ وطاب من صحف ومجلات تلبي جميع الأذواق.. ومما أتذكره في هذا الصدد أن صحيفة الجمهورية البغدادية وقعت في سبعينيات القرن الماضي في خطأ مطبعي جسيم على صدر صفحتها الأولى وذلك عندما سقطت “نقطة” حرف الباء سهواً من لقب الرئيس السابق “البكر” لتنشر على الملأ “بالبونط ” الأحمر “الرئيس الكر” باللهجة الدارجة تعني ” صغير الحمار “ولا أعرف ماذا حصل بعد ذلك من مصائب “للمتسبب” أو “كبش الفداء” المسكين الذي يُدفع به في مثل هذه الحوادث أو الحالات بدلاً من المسؤولين الحقيقيين لينال جزاءه العادل !
وفي هذا الصدد يقول الكاتب المصري الساخر أحمد رجب: الأخطاء المطبعية صنوف ودرجات، وعندما تقع هذه الأخطاء في العناوين الرئيسة تصبح أخطاء لا تُغتفر فالعنوان الرئيس أو المانشيت لا يمكن أن تخطئه العين في بروفات الصحيفة، وعن ذلك يقول رجب في كتابه “أي كلام” : “إذا رأيتُ غلطة مطبعية في بعض ما أكتب، أتذكر ما كنتُ أعانيه عندما كنت مسؤولاً عن الأخطاء المطبعية في مجلة “الجيل”، فقد اعتاد الأستاذ مصطفى أمين (عند تصفحه للطبعات الأولى الصادرة من المجلة) أن تقع عينه على الأخطاء.. كيف؟! لا أعرف غير أن المرة التي لا أنساها، هي عندما أشار مصطفى أمين إلى سطور، وهو يتساءل: ما هذا؟! وقرأت سطراً، فإذا به خطأ قاتل.. نتج من تداخل بين خبرين، فظهر كالتالي: “.. ورئيس الوزراء يفضل رياضة المشي، ويكره تقشير البطاطس” فأسرعت الى المطبعة، لتصحيح هذا الخطأ، الذي سوف يتسبب بالتأكيد في أن أقشر أنا البطاطس بعد إعطائي إجازة مفتوحة بلا مرتب.
وفي العدد التالي من مجلة “الجيل” أمسكت بـ “ماكيت” المجلة وفتشت سطورها بعناية، وزيادة في الاحتياط رأيت أن أعرض الماكيت على مصطفى أمين، الذي قلّب صفحات أخبار الأسبوع السياسي، ليسألني بعد لحظة: ما هذا؟! وأشار إلى سطور تقول: “.. وقال داج همرشولد سكرتير عام الأمم المتحدة إن المحادثات كانت ودية بين الجانبين، وأعلن أنه يكره تقشير البطاطس”، ما الحكاية؟! ومن أين تأتي هذه البطاطس؟!
ويُكمل الكاتب الساخر أحمد رجب الحكاية ، فيقول: على الفور أسرعت للاتصال بالمصحح أسأله: يا سيدي.. كيف تترك هذا السطر الذي يُعلن فيه همرشولد “السكرتير العام للأمم المتحدة حينئذ” أنه يكره تقشير البطاطس؟! فوعدني بتصحيحه فوراً.
وطلبت بروفة جديدة لأجد المصحح قد وفى بوعده فعلاً، وصحح العبارة كالتالي: “وأعلن داج همرشولد أنه لا يكره تقشير البطاطا !
ربما ما شار إليه الكاتب رجب هو غيض من فيض عن ما كان يحصل في عالم الصحافة من مواقف محرجة ومضحكة بسبب الخلط الصحفي بين الأخبار الذي يؤدي غالباً الى تغيير أصل المعنى للموضوع أو الخبر ووصوله الى المتلقي لهذا السبب أو ذاك مشوهاً ومشوشاً.. وإذا كان “سقوط” نقطة واحدة عن حرف الباء أو الياء في صحافة أيام زمان يقيم الدنيا ولا يقعدها.. فما بالك اليوم ومع وجود ثورة التكنلوجيا والتقنيات الحديثة في قطاع الطباعة والنشر.. بسقوط عشرات “نقط الحياء” كل يوم من جبين بعض المحسوبين على “السياسيين” والصحفيين والإعلاميين وهم يتعمدون خلط الأوراق والحقائق على المواطن المسكين.. ومع هذا لم يرق لهم قلب أو يرف لهم جفن أو تطرف عين !
• ضوء
الأخطاء المطبعية تؤدي الى تشويه الأخبار… والأخطاء السياسية تؤدي الى تمزيق الديار!
عاصم جهاد