من بين أصابعها يُتنزَلُ البكاءُ

اسماعيل ابراهيم عبد

نجاة عبد الله في تجاربها الشعرية تنحت لها ازاحات بمستوى كائن عالمي يقول الأشياء الناقصة التي تتكامل شيئيتها بتراكم نواقصها .
أقصد أن الإزاحة هي التي تؤلف عالم القصيدة لديها , لا التشكل المظهري للجمل تامة الفائدة نحوياً بلاغيا , تُرْدَم تلك النواقص عبر تلاقيها في بؤرة الفعل الأهم شعرياً , أي الصورة بنقص اكتمالها .
لنفاد من معنى عالمها عبر التمهيد الآتي : « الاحالة … فعل لغوي يشير , في حال فهمنا لمدلول الألفاظ المستعملة , الى أفراد أو إلى مقامات عالم ممكن (يمكن أن يكون العالم الذي نعيش فيه ولكنه يمكن أن يكون عالما موصوفاً) « ( )
تلج الشاعرة بقصائدها الطوال موضوعات فخمة للدلالة على النَفَس المسترسل حكائياً دون قص لئلا يُأثر القص على الفعل القصصي ولكنها تستثمر القص للغاية الشعرية ذاتها , فضلاً عن أنها تعنى بالتعقيد الجملي الذي يعدّ من أكثر المظاهر اللغوية دلالة على حرية البث الجمالي , كأن القصيدة دمع ينزل من بين اصابعها ماء خير!
من مظاهر فعلها الشعري , أنها تهتم بالعنونة كونها نصاً مراوغاً باتجاهين , التماهي مع الثيمة والاستقلال القيمي . كما ان الشاعرة لعبت كثيراً على المحايثة مع المأثور بمشاكسة واضحة , وعلى الرغم من أن لهذه الاشتغالات سابق من تجارب الآخرين لكنها هنا في (هناك بين أصابعي) تتحول الى لقى من يراعات يافعة للتآخي النصي والبلاغي دونما افتعال مضر .
(هناك بين أصابعي) تجربة ثرية , سنتقصى شأنها عبر تحليل بعض القصائد لنوفي بعض غاياتنا النقدية وحسب الآتي :
أولاً : نفي وجودية الموجودات كأن الوجود لعبة يمكن ان تتشكل بهيئات مرنة التغير , وكأن الاشياء المادية لذلك الوجود هي الاخرى تتشكل على صورة مزاج مزاح عن شعور صادق لكنه ليس فطرياً , الشاعرة تبني المكونات , ثم تهدم وجودها , ثم تنفيه كأن الوجود كائن مساعد لتشكيل الصورة , وما ان تنتهي الصورة من تشكلها حتى يرحل العالم بعناصر وجوده الى اللاشيء او اللامعنى :
[ أطيلُ البكاءَ
في المقهى رغم أنّي قاحلة ومريبة أتفيّأ الاشجارَ الثلاثَ ليرتفع رأسي الى السماء ويتسع فمي وأنا أُطلق ضوءَكَ هناك بين أصابعي , ص10] * الوجود في المقطع اعلاه لعبة مكونة من : (المقهى , الاشجار , الرأس , السماء , هي , هو) , انها عناصر واقعية ملموسة , ستتحول الى عناصر متغيرة لعالم مرن وجل بواسطة شبيهات الاشياء : (البكاء , الجفاف , الريبة , الدعاء) , ثم ترحل في ثالث تحول لها , إذ تنفى الى اللاشيء واللامعنى عبر : (التوسع والانطلاق والضوء) .. فهي كائنات وجودية ليس لها معنى حقيقي على ما فيها من واقعية , ولن تَسم موجودات الوجود بما يوضح ويحدد لها وظيفة , وستظل بلا معنى , انما كل تلك العناصر بمستوياتها الثلاثة قد أسهمت بإلغاء العناصر المادية لصالح الصورة الذهنية التي مدركها المهم هو : (الاقتناع بأنها صورة ممتعة طربية , لها دلالة مطلقة التأويل) ثانياً : نشوى بركة الجسد « يرى فرويد … بأن : جمال الاشكال والحركات … وجمال الاشياء … والمتعة الجمالية بصفتها إنفعالاً يبث في النفس نشوة خفيفة من الثمالة , متعة خاصة «( ) . هذا التمهيد يعطينا فكرة مركبة عن الجسدانية والروحانية والفكرية . من المؤكد انها ثلاثية للإنتاج الجمالي أيضاً , اذا ما أدخلناها ضمن حدود الشعر . الشاعرة نجاة عبد الله أخذت هذه المنظومة لاستنطاق ما لا يُبْصَر ولا يكنى ولا يقنن , أي انها وافقت بين جزيئات المنظومة لتعبر عن الحسي الجمالي الفكري دون ضبط تقني يخرب الشعور الشعري المتضامن مع الحالة الذاتية للشاعرة كونها ذات فردية تعبر عن وعي جمعي بالأشياء الأكثر ليونة وجلالاً (الجسد والرأس والاذن واللسان) . لننظر .. [ سبحانه يعطل قيثارتي ويكثر من الغناء , فمي الذي سر برأسي ورأسي الذي سر بجسدي وجسدي الذي سر بي … سبحان رأسي يفكر بي ويدور في جسد غيري . هناك بين أصابعي , ص59 , ص60] من المدرك السهل ان نصنف هذه المقاطع الشعرية على اساس الشيئية المادية وغير المادية وسندرك ان الاشياء المادية غالبة على النمو الجملي للنموذج القولي , من ثم نصمها بالنصوص المباشرة , لكن , يا للمفارقة , إن عدنا الى ما ترسمه من علائق دلالة إنخراطاً بالمباغي الفكرية وصولاً الى المهيمنات المعنوية لها .. لنبتدئ بروحانية المقاطع الشعرية اعلاه . في هذا المجال استثمرت الشاعرة طقساً عبادياً مضللاً لغاية واحدة هي الايهام بقدسية القول الشعري , وتركت للقارئ ان يتماهى مع فرضها الذوقي لتنتشل نفسه من ذلك الفخ .. لأجل ان نعطي مبرراً لقولنا ( مهيمنات المعنى التأويلية ) , سنوظب العلائق الجملية لأغراض شعرية لا غير . وبذلك نتخلص من سذاجة الفهم المادي .. نرى أن هذه العلائق تستند الى فواعل نظمية خاصة كمهيمنات للمعنى العام متعدد الاغراض. من تلك المهيمنات تاريخية الجسد ,عقلانية الرأس , جمالية الإتساق بينهما . 1 مستوى تاريخية الجسد الجسد كونه مجسد هو محط الرغبات , ومظهر الشكل , ومبرر الجماليات كلها , والشاعرة قد وضعته مفارقة زمنية تطوف حول لحظة انسانية , تحيله الى منظومة مبعثرة متوزعة الى ثنائيات تترابط أهدافها ومصاغاتها بين الجسد الفكر بمسافة فعل شعري , فلا الجسد هو البدن المادي ولا الفكر هو العقلانية الباردة , إذ ان التاريخ البشري خلق للجسد سيادة الفعل سواء بالفروسية أو الايروسية الذكورية والانوثوية , تلك أهم علائق الثنائيات المشار اليها كمهيمنات معنى. 2 مستوى العقلانية العقلانية المرتبطة بالتدبر والذكاء لها اطار شكلي هو الرأس ومن فعائله المعنوية , أنه منظم السلوك ودافع العمل ومخطط النوايا , فضلاً عن أنه دليل المنعة والشموخ , وغير ذلك كثير. في النص , الرأس لا مدبر ولا منظم ولا قادر على حماية الجسد , لذا فهو دوران فكرة لأجل الآخرين .. وهنا تهجيس سياسي ذكي , معبراً عنه بصورة تجريدية كوميدية سوداوية , لها مبرر شعري مهم , ان تتحول الأشياء التي لا رابط في دلالاتها , الى أشياء ثقافية منتظمة الغايات والمصاغات. 3ـ جمالية الاتساق نرى , أن من أصعب التقنيات في الكتابة ان تخلق اللغة معادلها الدلالي بتهديم المنطق التقليدي . وفي المقاطع اعلاه نوع من الدوران المتمرن على الإغواء اللغوي , هذا الدوران يعيد للاشتغال اللغوي المبسط منعته وجماليته , فمن كلمات قليلة وجمل برقية وحمولات (مفارقة) تنفرش امامنا قصيدة محملة بالدلالات التأويلية عبر التناسق الدوراني والاتساق الاسلوبي لأجل ان يفارق القول معهوديته المعنوية التقليدية نحو مستجليات الفهم المتنامي ليرسم خطى دراما شعرية قابلة على التبصر واستجلاب النظائر التناصية لتفعيل دور الشعور الشعري كشعر متمم للفهم والوعي العام (السياسي , الاجتماعي , الثقافي). 4 نشوى بركة الجسد لعل الشاعرة تدرك جيداً بركة الرب الذي وهب الجسد كل ما تحتويه الانسانية من معنى ومظهر وقيم , ونشوة وجمال , اشار إليه فرويد بكونه نشوة البيئة بالطبيعة والبشر , الشاعرة تعي انها توزع علينا جسداً شعرياً مهيضاً مهموماً لئلا ننسى بأننا بإزاء مفارقة حضارية , إذ هي من يصير تزرع الصورة الآتية : (سبحان رأسي يفكر بي ويدور في جسد غيري) أليس هي من نعمة وبركة وجمال الجسد الذي يرسم شعوراً من هذا النوع . 5 مستوى اللا مغالطة في وعي الجسد الوعي المعرفي والمعلوماتي بمهمة الجسيد يحتم الوعي اللامغلوط بعلميته العالمية , فثمة ظلم في العالم المحيط بنا ينبغي ألّا نغالط ذواتنا وننبهر بظرففية الاستثمار المهين لجسدانية الجسد , سترينا اياه الشاعرة نجاة : الف حررتهم الرقاب من الاجساد .
* ترى .. أهناك شيء سوي نتبعه ونترك الشعر؟! لا .. أبداً .. لا ..!

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة