الأمن الأوروبي في عصر ترمب

كارل بيلت
كارل بيلت رئيس وزراء السويد ووزير خارجيتها سابقا.
في مؤتمر ميونيخ للأمن العام الماضي، سادت حالة واضحة من الخوف والتوجس بين المسؤولين الأمنيين الأوروبيين. فقبل ثلاث سنوات، ضمت روسيا شبه جزيرة القرم وشنت عمليات توغل في شرق أوكرانيا. وفي العام السابق، قرر الناخبون البريطانيون بأغلبية ضئيلة إخراج بلادهم من الاتحاد الأوروبي، وانتخب الأميركيون رئيسا انتقد حلف شمال الأطلسي وأبدى إعجابه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتن علنا.
لكن الغرب نجا حتى الآن من عصر دونالد ترمب. فعلى الرغم من الارتباك المستمر بسبب الخروج البريطاني والصعوبة التي يواجهها القادة الألمان في تشكيل حكومة جديدة، يبدو أن الاتحاد الأوروبي نهض بسرعة من وعكته. فكان أداء أغلب اقتصادات الدول الأعضاء طيبا، كما نفخت إدارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حياة جديدة في جسد الفكرة الأوروبية.
ورغم أن إدارة ترمب واصلت إرسال إشارات مختلطة حول مدى استعدادها للالتزام بالتعهدات الأميركية، فإن الولايات المتحدة لم تحترم تعهد الرئيس السابق باراك أوباما بتعزيز الموقف العسكري لحلف شمال الأطلسي في منطقة البلطيق وبولندا. وفي التحضير لقمة حلف شمال الأطلسي في وقت لاحق من هذا العام، أشارت الولايات المتحدة إلى أنها تعتزم بذل المزيد من الجهد لضمان السلامة الإقليمية للدول الأعضاء في منطقة البلطيق وإسكندنافيا.
علاوة على ذلك، تلاشت المخاوف من احتمال مفاده أن ترمب ربما يحاول التوصل إلى اتفاق على غرار اتفاق يالطا مع الكرملين ــ حيث تُترَك دول أوروبا الشرقية لمصيرها. ويتمثل التخوف الأكبر الآن في العلاقات الأميركية الروسية التي أصبحت على نحو متزايد مريرة، وبطريقة غير عقلانية وسخيفة.
في الوقت نفسه، تبدو روسيا حريصة على فك اشتباك جيشها في موقف عويص في سوريا، حيث لعبت حتى الآن أوراقها على النحو الصحيح. ولا يمكننا أن نقول الشيء نفسه عندما يتعلق الأمر بأوكرانيا، حيث عَلِم الكرملين أن الغزوات ليست وسيلة جيدة لتكوين الصداقات. فمن خلال تنفير أوكرانيا لأجيال قادمة، جلبت روسيا على نفسها انتكاسة جيوسياسية ذات أبعاد تاريخية.
عاجلا أو آجلا، سوف تكون روسيا راغبة في تقليص خسائرها وفك الارتباط في شرق أوكرانيا أيضا. وقد طرحت بالفعل فكرة إرسال عملية محدودة لحفظ السلام تابعة للأمم المتحدة إلى هناك. ورغم أن روسيا لم تعرب بعد عن رغبتها في التنازل عن سيطرتها على الحدود الروسية الأوكرانية، ولم تحرز أي تقدم في المحادثات مع الولايات المتحدة، فمن المؤكد أن بوتن يعرف أن الوضع الراهن من غير الممكن أن يستمر.
تُرى هل يعني كل هذا أن المخاوف التي كانت سائدة قبل عام واحد تبددت؟ كلا بكل تأكيد. فقد خلفت الصدمات الاستراتيجية في السنوات الأخيرة جروحا عميقة ودائمة، ودفعت أوروبا إلى مناطق جديدة مجهولة. قبل عشر سنوات، كان قادة الاتحاد الأوروبي يتحدثون بثقة عن نشر الاستقرار في الخارج. واليوم أصبحت الأولوية لمنع عدم الاستقرار من الامتداد إلى أوروبا.
في الوقت نفسه، هناك إدراك متزايد لحقيقة مفادها أنه في حين تظل الولايات المتحدة الضامن الرئيسي للأمن الأوروبي، فإن هذه الحال قد لا تدوم إلى الأبد. وحتى لو كانت بعض الخطابة المصاحبة للمقترحات حول إنشاء اتحاد دفاعي للاتحاد الأوروبي تتسم بالمبالغة الشديدة، فقد كان قادة الكتلة على حق في التركيز بشكل أكبر على القضايا الدفاعية والأمنية. وسواء كان ذلك من خلال «السياسات الصناعية الدفاعية» أو أي شيء آخر، فإن الولايات المتحدة تحتاج إلى تطوير قدرتها على حشد استجابات مشتركة في التصدي لتهديدات القوة الصارمة في المستقبل.
ويصدق هذا حتى لو ندم الكرملين على تصرفاته في عام 2014، والتي دفعت القوى العسكرية الغربية إلى نشر قواتها على حدودها. ذلك أن روسيا لا تزال متمسكة بشبه جزيرة القرم، حيث تحتفظ منذ فترة طويلة بقواعد عسكرية رئيسية. وبعيدا عن روسيا، تحيط بأوروبا صراعات جارية. وتزداد حدة التوترات من نهر السند إلى نهر النيل وعبر شمال أفريقيا، حيث تخلف أي اضطرابات تأثيرا مباشرا على الأمن الأوروبي. وكما يدرك الأوروبيون، لا يوجد سبيل لبناء جدار في البحر الأبيض المتوسط.
من المثير للقلق فضلا عن ذلك أن إدارة ترمب نادرا ما تتحدث عن دعم النظام الدولي الليبرالي الذي ساد بعد الحرب. بل تنظر إدارته إلى العالَم على أنه منافسة استراتيجية حصيلتها صِفر حيث ينبغي للولايات المتحدة أن تنظر إلى نفسها فقط. ومن المؤسف أن مخاطر نشوب حرب شاملة سوف تزداد بشكل كبير في عالَم يفتقر إلى مؤسسات مشتركة تعمل على كبح جماح الدول ذات السيادة ومنعها من تصعيد الصراعات بين بعضها بعضا.
لا شك أن الولايات المتحدة تقول إنها حريصة على زيادة التزامها بالأمن الأوروبي. ولكن نظرا للقوة العسكرية الصينية المتنامية والأهمية الاستراتيجية التي تتمتع بها منطقة آسيا والمحيط الهادئ، فلن يكون أمام الولايات المتحدة أي خيار سوى تحويل محورها باتجاه الشرق. والواقع أن الولايات المتحدة، على الرغم من كل شكاوى ترمب حول مساهمة أميركا الضخمة في حلف شمال الأطلسي، توجه القسم الأكبر من إنفاقها العسكري إلى منطقة آسيا والمحيط الهادئ.
وعلى هذا، ففي حين هدأت المخاوف المباشرة التي نشأت في عام 2017، وعلى الرغم من بعض الشعور بعودة الحالة السوية، فلم يعد بوسع الأوروبيين أن يتجنبوا تحمل المسؤولية عن الدفاع عن أنفسهم. وحتى بعد رحيل ترمب بفترة طويلة، لن تكون القوة الناعمة كافية في عالَم تسوده صراعات القوة الصارمة.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة