رجال ووقائع في الميزان

يرسم الراحل جرجيس فتح الله أفقاً فكرياً وسياسياً نادر المثال فهو بهذا العمل يتطرق إلى زوايا وأحداث وشخصيات كان لها أدوارها المميزة سلباً وإيجاباً في التاريخ العراقي. ومما يلفت النظر في هذه النصوص التي وردت في كتاب رجال ووقائع في الميزان أنها أضاءت بنحو دقيق لحظات وأحداثاً ومسالك فكرية وشخصية وثقافية وتاريخية لم يتطرق إليها احد قط.
“الصباح الجديد” تقدم قسطاً وافراً من هذه الإضاءات كما وردت على لسانه لجمهور لم يطلع عليها في السابق بمعزل عن عمق ثقافة هذا الجمهور او صلته بالسياسة العامة. إنها ليست أفكاراً فحسب وإنما هي شهادات تنطوي على نبوءات مثيرة للدهشة عن اثر المناهج والأيديولوجيات والشهادات التاريخية السابقة للأشخاص الذي يجري الحديث عنهم ويسهم الراحل جرجيس فتح الله في تصحيح الكثير من المواقف والتصورات والوثائق السياسية المرافقة لمواضيع الحديث. كما ان أفكار السيد فتح الله تستكمل في أحيان كثيرة ما كان نصاً لم يكتمل في الماضي. إننا من دواعي الاحترام والتبجيل لهذه الشخصية النادرة نسطر عدداً من هذه الأفكار في الكتاب المذكور” رجال ووقائع في الميزان”.
الحلقة 8
حوارات مع جرجيس فتح الله*

نزحت العشيرة البارزانية واحلافها بعد ختام الثورة الى ايران ومكثت حتى اوائل العام 1947 حين قرر ملا مصطفى اللجوء بأتباعه الى اراضي الاتحاد السوفياتي وارتأى اخوه الشيخ احمد العودة الى الاراضي العراقية بسائر العشيرة سكنوا مخيمات ومعسكرات مؤقتة .
وكان المجلس العرفي العسكري الذي شكل في حينه في اربيل قد اصدر احكاما غيابية في قضية واحدة او عدة قضايا . على ما بلغ مجموعه (111) متهما بعضهم بالاعدام شنقا وبينهم ملا مصطفى واخوه الشيخ احمد والضباط السبعة الذين التحقوا بالثورة الى جانب ستة وعشرين اخرين ونال البقية احكاما مختلفة تتراوح بين الاشغال الشاقة المؤبدة وبين الحبس الشديد .
ووجدت الشرطة فرصتها في عودة العشيرة بالبحث عن المحكومين فراحوا يطوفون في المعسكرات وبأيديهم مذكرات الحبس الصادرة من المجلس العسكري فوقعوا على هذا الفتى الذي اصبح رجلا . وكان اسمه طبق اسم محكوم من مقاتلي البرزاني الذين رافقوه في المسيرة . فأخذ واودع السجن .
استهوتني المسألة بقدر ما تهولت عنصر الغدر والظلم فيها . وفي اليوم التالي تقدمت بطلب الى حاكم التحقيق الاستاذ (ضياء شيت خطاب) وهو زميل الدراسة الذي نوهت باسمه في صدر حديثي . مطالبا باطلاق سراح السجين توفيقا للمادة 283 او 286 (ان لم تخن الذاكرة) من قانون اصول المحاكمات الجزائية . ولا اتذكرها نصا وأضنها مستنسخة من القانون الانكليزي العام الموغل في القدم وهي القاعدة القانونية التي يسير عليها القضاء هناك والقضاء الاميركي المعروفة بأسم وفحواها بقدر ما اتذكر “انه اذا بلغ علم حاكم ذي سلطة (قاضي تحقيق او قاضي جزاء ) بأن شخصا ما قد سجن او اعتقل من دون وجه حق او من دون ان توجه اليه تهمة او يرتكب جرما .فعليه بعد التحقق من ذلك ان يأمر بأطلاق سراحه “.
وكنت عالما بشوق (ضياء ) الى تناول ما قد يعد من قبيل السوابق القضائية بالعناية والاهتمام . كان دائما يفخر بأنه تلميذ الدكتور عبد الرزاق السنهوري القانوني المصري الطائر الصيت وله معه مراسلة .
طلب اولا احضار السجين لمعاينته وضبط اقواله وبعد ان تأكد من صحة الادعاء احاله الى لجنة طبية لتقدير عمره . واتفقنا على العمل بهدوء وعقلانية لتعلق القضية بثورة منظمة كلفت السلطة كثيرا من السمعة والتغطية الاعلامية . لا سيما تلك الانباء المزعجة التي كانت تذاع عما يدبره البارزانيون اللاجئون , وعن النبأ المختلق بأن السلطة السوفياتية قد منحت ملا مصطفى رتبة جنرال وانها تدرب رجاله الخ…
قدرت اللجنة الطبية عمره الحالي بثمانية عشر علما كحد اقصى . وكانت الخطوة الثانية الاطلاع على ملف المحاكمة العرفية المحفوظ في وزارة الدفاع للتثبت من هوية المحكوم الحقيقي الغائب . ولم تستجب الوزارة الى الطلب واحتجت في واحد من ردودها بأن الملف هو من اسرار الدولة ولا يمكن اخراجه . ومرت الاسابيع بين اخذ ورد وضاق صدر (ضياء) وهدد برفع المسألة الى وزير العدلية . وفي ذات يوم استدعاني ففزعت اليه فأوعز الى حاجبه بأغلاق الباب وعدم السماح لاحد بالدخول . ثم اشار الى ملف سمكه يقارب خمس بوصات قائلا : انهم ارسلوه بصحبة ثلاثة ضباط من ركن الادارة وهم ينتظرون في الغرفة المجاورة ” خذ منه ما تراه وسجل على عجل لاعيده اليوم . اما انا فقد فحصت الشهادات وتأكد لدي ان الشخص المحكوم الاصلي كان احد قادة فصائل الثوار بعمر يزيد عن الثلاثين ولا يمكن قط ان يكون سجيننا هذا وقد اثبت ذلك”.
كان يعرف اهتمامي ومتابعاتي السياسي لا سيما في القضية الكردية عموما . دفع بالملف الى يدي . ولا اطيل عليك فقد نقلت كل ما استطعت نقله واذكر اني ركزت على نقل بعض الرسائل التي كان يبعث بها ملا مصطفى الى المسؤولين العراقيين والبريطانيين وعلى عدد كبير من التقارير السرية . وعلى رسائل ضبطت موجهة الى زعماء ورؤساء كورد قبل القيام بالثورة . وقد شاءت المقادير ان انتفع بما استنسخت . بعد ثلاثة عشرة سنة كما سآتي اليه بعد قليل . ولا اطيل فقد اصدر قاضي التحقيق قراره بأطلاق سراح موكلي . الا ان مدير السجن لم يعبأ ورفض التنفيذ , فطلبت تأييد قرار القاضي من المحكمة الكبرى بصفتها الاستثنائية وحصلت على المصادقة ايضا . كان كلانا يترقب نهاية هذه المعركة القضائية الفريدة في تاريخ القضاء العراقي ففي حين اصرت ادارة السجون على الاحتفاظ به سجينا الامر الى استطلاع رأي ديوان التدوين القانوني في وزارة العدل . وطال انتظار القرار حتى بدا وكأن القضية ضائعة . ثم حصل ما لم يكن في حسباننا . ففي اواخر العام 1949 جرى حفل افتتاح بناية المحاكم الجديدة ودعي الاستاذ حسين جميل وزير العدل اذ ذاك بالمناسبة . لم اشعر الا والاستاذ ضياء يلكزني ويهمس في اذني قائلا :” الحق بالوزير وهو يعرفك واعرض عليه الامر” ففعلت , قال الاستاذ جميل :”ماذا لو جئت الى بغداد ؟”قلت :”اذن على وزارتك ان تدفع نفقاتي ” فضحك وتناول دفترا وقلما من جيبه , ولم يمر اسبوع حتى ورد قرار ديوان التدوين القانوني القاضي باخلاء سبيل السجين . وكان قد قضى سنتين وبضعة اشهر .
وتمر السنون سراعا لاجد كم خدمني استنساخ المعلومات من ملف المحاكمة العرفية .
في الاشهر الاولى من العام 1961 كانت الاجواء مكهربة وعبد الكريم قاسم يتهيأ لانزال ضربته بالحزب الديمقراطي الكردستاني وقد مهد لها بالهجوم المبطن على شخص رئيسه البارزاني . شعرنا بذلك عندما انتهز فرصة زياره له الى مقر الفرقة الثالثة او الرابعة فألقى خطابا تناول فيه شخص البارزاني بالعيب وصنفه في عداد العملاء وخدم الاجنبي من دون ذكر الاسم الا انه ذكر اسماء بعض المسؤولين البريطانيين الذين وجه البارزاني رسائله اليهم . فلم يبق مجالا للشك فيمن يستهدفه الدكتاتور . وتداولنا في (خة بات) في الموقف والرد فأستبقت وقلت “هذه حصتي فدعوا الرد لي” وكان لي ذلك وفي صبيحة اليوم التالي او بعده , واجه قاسم على صفحات خه بات من الرد ما يستأهل تحديدا صريحا وعقوبة ادبية لمن تعود على اعتبار اقواله ايات بينات .
حزب الشعب
س: بدأتم حياتكم السياسية والحزبية بالانتماء الى حزب الشعب الذي رأسه المناضل المعروف (عزيز شريف) ثم قدمتم استقالتكم منه وانتميتم الى الحزب الديمقراطي الكردستاني متى كان ذلك وكيف . هل لك ببعض تفاصيل؟
بالاحرى كنت واحدا من المؤسسين العشرة او نحوهم الموقعين على طلب الاجازة , لا من المنتمين بعد الاجازة . كان ذلك زمن انبعاث الحياة الحزبية في العراق وقد منحنا الاجازة في اوائل شهر نيسان من العام 1946.
وكنت لتوي قد انهيت خدمة الضباط الاحتياط وعدت الى مزاولة المهنة . خلال مدة وجودي في الحزب كنت معتمد الفرع في مدينة الموصل . ولم انتمِ للحزب الديمقراطي الكردستاني فور استقالتي بل مرت فترة تقارب السنتين .
س: أسباب الاستقالة ونشاطكم السياسي خلال فترة عضويتكم ؟ ماذا عن رفاقكم المؤسسين . ايمكن تزويد القراء بصورة عن الجو السياسي العام الذي كان يسود العراق في اثناء قيام الاحزاب ما هو مصير الحزب بعد استقالتكم ؟
لم يعش حزب الشعب بشكله العلني الا مدة قصيرة لا تزيد عن سنة واحدة او بضعة اشهر وعندها اصدرت حكومة (صالح جبر ) قرارا بألغاء اجازته و اجازة حزب الاتحاد الوطني الذي كان يرأسه (عبد الفتاح ابراهيم ومحمد مهدي الجواهري).وبخصوص استقالتي , تم ذلك بالاتفاق مع (عزيز شريف) وبعد حديث مستفيض . ومما اذكره ان الاستاذ عزيز ادرك تماما وجاهة اسبابي في حينه حتى انه شق عليه ان يصدر كتابا بتوقيعه بقبول الاستقالة وبحكم تلك العلاقة الصميمة الرائعة التي شدتنا بعضنا الى بعض وارتقت طوال السنين لتغدو علاقة عائلية . صداقة متينة لم تقو الايام على النيل منها برغم البعد الزمني والاختلاف العقائدي . قليلا ما التقينا خلال نصف القرن الذي عقب لقائنا الاول . فأذا التقينا فكأننا كنا معا يوم امس . لا اريد التحدث عن الاستاذ (عزيز) هنا بأكثر من هذا خشية ان يخلو وطابي مما ادخر من كلام عنه عند الاجابة على السؤال التاسع من حواركم وقد عينتموه لي بالاسم .

*اجرى الحوارات السيدان مؤيد طيب وسعيد يحيى والكتاب من منشورات دار أراس للطباعة والنشر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2012

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة