المقهى الثقافي العراقي يحتفي بجواد سليم
لندن – ابتسام يوسف الطاهر
ارتبط اسم جواد سليم بالمنحوتة الفريدة )نصب الحرية( بكل مافيها من ابداع فني سياسي تاريخي شعبي. جواد سليم كان رائدا في بناء الذائقة الشعبية للفن التشكيلي.
ساهم في تاسيس جماعة بغداد للفن الحديث مع الفنان شاكر حسن آل سعيد في عام 1951م، وانضم إلى الجماعة فيما بعد الفنان محمد غني حكمت والرسامة نزيهة سليم، كما إنّه يعتبر أحد مؤسسي جمعية التشكيليين العراقيين، ولقد وضع عبر بحثه الفني المتواصل أسس مدرسة عراقية في الفن الحديث، وفاز نصبه المعنون (السجين السياسي المجهول) بالجائزة الثانية في مسابقة النحت العالمية وكان هو المشترك الوحيد من منطقة الشرق الأوسط، وتحتفظ الأمم المتحدة بنموذج مصغر من البرونز لهذا النصب. كان يجيد اللغة الإنكليزية والإيطالية والفرنسية والتركية إضافة إلى لغته العربية.
احتفل المقهى الثقافي العراقي في لندن بمنجز الفنان جواد سليم. قدم الامسية الفنان فلاح هاشم، الذي اعطى نبذة عن حياة ذلك الفنان الرسام والنحات «مرت سبعة وخمسون عام على رحيل النحات الفنان جواد سليم، الاسم الاكثر تداولا بين الفنانين فلو انه اكتفى بانجاز نصب الحرية لكان كاف لتخليده ..فنصب الحرية يشكل من خلال 14 قطعة ملحمة نضال الشعب العراقي .. فكل قطعة هي عمل فني متكامل موضوعا وابداعا.. توفاه الاجل قبل ان يراه يتربع على قاعدة ويرتفع كما لو هو لافتة ترفعها الامة العراقية.
جواد سليم متعدد المواهب فهو رسام ترك ارثا من لوحات عديدة خالدة مزج فيها الموروث الشعبي مع ما درسه من فن اوربي من خلال دراسته او زيارته لفرنسا ولندن وغيرها. عبر في لوحاته عن الشارع العراقي في لوحاته مثل امرأة تحمل ماكنة خياطة، واطفال يلعبون وغيرها.. نال وهو بعمر11 عاما الجائزة الفضية في النحت في أول معرض للفنون في بغداد سنة1931. وأرسل في بعثة إلى فرنسا حيث درس النحت في باريس وكذلك روما ،ولندن. ولقد كان رئيس قسم النحت في معهد الفنون الجميلة في بغداد حتى وفاته في 23 كانون الثاني 1961.
الفنان التشكيلي فيصل لعيبي استعرض مجموعة من الصور الفوتوغرافية عن حياة جواد سليم زملاءئه واصدقائه وبعض لوحاته منها «تمثال الام عن اسطورة يونانية عن ام حاولت انقاذ طفلها من الغرق.. وقال:»أعتقد أننا في حاجة الى قراءة جديدة لجواد سليم لأن مجايليه لم يمتلكوا ما نملك الآن من معارف جديدة بشأن الفن والمجتمع وكذلك من مناهج أكثر تدقيقاً من مناهج الخمسينات..لقد ترك لنا جواد منهجية جديدة تمتلك قانونيتها ولها القدرة على إنتاج فن ومعرفة تقابل ما للآخرين من معارف وفنون وثقافات، منهجية لا تلغي الآخر ولايقدر الآخرعلى إلغائها. وقد أثبت للآخر عملياً تعدد وجهات النظر وإختلافها في فهم المشهد الفني في منطقتنا.
«والمعروف أن أوربا قد خلقت تصوراً عنا يعود الى الماضي، تصور ثابت لا تسمح بتغييره، ولا يحق لنا تحريكه أيضاً، وهو تصور غريب مليء بالأعاجيب.. وهي صورة مشوهة وتتصف بالعنصرية وتنعتنا بنعوت وحشية عموماً، فمن غير المسموح لنا تقديم نتاج معرفي لماهو مخالف للتصور الغربي حولنا. لقد كتب يوهان فابيان في كتابه (الزمن الآخر– كيف تصنع الأنثروبولوجيا موضوعها) يقول ما معناه: من الضروري دراسة الأخر ومعرفة شروط حياته لغرض السيطرة عليه. أما برنار لوي، فهو يرى بصعوبة إمتلاكنا لثقافة ما! هنا يكمن دور جواد سليم وأمثاله، الذين كسروا القاعدة السائدة وغيروا النظرة الدونية نحونا وقضوا على إحتكار المعرفة والثقافة والفنون. فأصبح في الأمكان إنتاج ثقافة وفن تقابل ثقافة وفن الآخر وتقف في مستوى واحد منها، دون تحيز أو مغالاة حيث فجر مكنون هذا الشعب وقدمه بشكل عصري يتناسب مع ماكان سائداً في فترته من محاولات التجديد الحقيقية».
واضاف لعيبي «لقد ساهم جواد سليم مع اسماء عديدة من المبدعين في كل مجالات الابداع والتجديد مثل فائق حسن، علي الوردي، عبد الجبار عبد الله، بدر شاكر السياب ونازل الملائكة وطه باقر وغيرهم من الفنانين والمفكرين في إرساء قواعد الحداثة في الثقافة العراقية المعاصرة. رفض جواد الثقافة الملفقة ودعا الى ثقافة أصيلة لاتنقطع عن الجذور ولا تغلق بابها عن الجديد في الفكر الإنساني المتنور. لقد جعلنا جواد ورواد الحداثة في بلادنا، قادرين على إنتاج ثقافتنا الوطنية، بعد أن كنا نستهلك ثقافة الغير ونعتاش عليها. يذكر الفنان إسماعيل الشيخلي، أن جواد تلقى رسالة من فرنسا عليها طابع بريدي فرنسي للوحة الفنان يحيى الواسطي، بمناسبة إقامة معرض الفن الإسلامي آنذاك. وهناك تفاسير مختلفة لما آل أليه أسلوب جواد سليم، لكنها تتفق جميعها على جدية جواد في بحثه عن أسلوب يمثل فنون بلاد وادي الرافدين، مع إصرار على ربط كل هذا بالعصر الحديث.
«جمع جواد فن التشكيل في شخصه بكل معنى الكلمة، فكان نحاتاً ورساماً وخزافاً ومصمماً إضافة لإهتمامه بالموسيقى والشعر والمسرح والسينما، إذ كان جواد أقرب الى الموسوعي، وقد ساعدته إقامته في ثلاث بلدان على توسيع دائرة إهتمامه. نصب الحرية لجواد يمكن إعتباره خلاصة فنه ورسالته التي أراد أن يوصلها لنا نحن العراقيون وكذلك للعالم، ويعد هذا النصب من أهم نصب العالم في القرن العشرين، فهو بمصاف الجورنيكا وجداريات ريفيرا المكسيكي وغيرها من الأعمال العظيمة لفناني العالم.
ثم قرأ فلاح هاشم مداخلة الفنان علي النجار التي بعثها من السويد وهي مقطع من كتاب سيرته المعنون (صدى الاعوام)، عن ذكرياته مع استاذه جواد سليم حين كان طالبا في الصباح وساعده جواد سليم الذي كان يحاضر في المساء على حضور حصته(متسللا) رغم مطاردات معاون المعهد الاداري. «كان دمثا في معاملته للجميع وقد حرص على دعم حضور بعض الطلبة الذين كان يؤمن بموهبتهم بالرغم من عدم حصولهم على مؤهلات الدراسة في المعهد مثل النحات طالب مكي..وكثير ماكنت احضر مناقشته الفنية مع صديقه الفنان فائق حسن»
كانت رسوماته متنوعة الاساليب من التجريد الهندسي الى التزويق بمقاربات الواسطي لتاسيس مدرسة فن بغدادية اثرت على الجيل الاحدث ومحاولاته التشخيصية التي لاتخلو من عناصر التجريد البيئي المحلي..هذا التنوع الاسلوبي نجده في نصب الحرية لكن بطريقة اخرى حيث رقة النحت الايطالي وصرامة الانكليزي ومحاورة الارث الرافيديني جمع بين كل هذه التاثيرات بوحدة لسلوبية لاتخطئها العين» وقد تخرج على يده خيرة نحاتي العراق منهم محمد غني، ميران السعدي، اسماعيل فتاح الترك، طالب مكي ونداء كاظم وغيرهم.
اختتم الامسية الرسام يوسف الناصر، بمداخلة تحليلية لفن جواد سليم وفضله على الفن التشكيلي لا في العراق فقط بل في المحيط العربي.»لقد كُتبَ الكثير عن جواد سليم لكن لاحظت ان اكثر الكتابات ركزت على محاولات جواد سليم في ربط الماضي بالحاضر معتمدا على التراث وتقديمه بشكل جديد..كما لو ان جواد لم يكن مبدعا وانما اخذ مادة جاهزة وقدمها بشكل حديث!متناسين ان جواد سليم مفكر وقادر على خلق رؤيا واسلوب لم يسبقه له احد على المستوى العربي فلم يرسم حسب ذائقة الجمهور بل تحدى المألوف ورؤياه للفن التشكيلي..الحديث عن فن جواد سليم بحاجة الى ورشات عمل ودراسات متشعبة بما يستحقه من اهتمام..فهو موهبة استثنائية غيرت شكل اللوحة كما غير السياب شكل القصيدة….الشعب العراقي محظوظ، بأهم رواد مجددين على مستوى الشعر بدر شاكر السياب والنحت والرسم جواد سليم. فجواد سليم خلق مدرسة عراقية للفن التشكيلي..كان يؤسس لشيء مختلف، انتج فن يخصه عمل على كسر رتابة الذائقة الشعبية حيث الجمهور لايعرف من الرسم غير البورتريت والمنظر الطبيعي. فكان باحثا ومجددا».
هناك تقصير لايغتفر بحق هكذا مبدعين، فجواد سليم يعد ثروة فنية للعراق فلا المسؤولين ولا الاعلام اعطى ذلك الفنان حقه على الاقل في جعل بيته متحفا يجمع لوحاته وما تركه من تخطيطات او كتابات فنية او شخصية فهو معلم من معالم الحضارة العراقية التي يجب ان نفخر فيها وبذل كل الجهد في الاهتمام بها بشكل يليق بمكانتها وعطاءها.