ليو العجوز يتذكر

جيكور صالح

يالهُ من صباحٍ جميل، غبش أبيض، كأنه نثار من ضوء القمر .. الشمس تذر ذهباً أصفر، على الحقول والتلال وقراميد البيوت ..ياله من صباح لامثيل له !!
قالها ليو، قبل عامين، وهو يرخى ستائر غرفة نومه بمقدار يسمح له رؤية من في الخارج، دون أن يراه من في الخارج .. فَرَدَ ذراعيه وهو يتثائب وينعم بدفء فراشه، تمطى، ثم عاد للتحديق في الاتساع الفسيح لحقول الذرة، التي إكتست سنابلها اللون الحنطي الغامق، وعرائش العنب التي لاتخلو منها حدائق البيوت الكبيرة الغافية فوق منبسط العشب الأخضر، الممتد أمامه..ياله من صباح رائق، الطيور تحلق في كل الإتجاهات، العصافير تخَتصِمُ فوق شجرة التين الكبيرة، تثيرُ زقزقة صاخبة، ثم تفر هاربة من غصن الى غصن، ومن شجرة الى شجرة .. ياله من صباح مُنعش ، ياله من، وقبل أن يتم عبارته، سمع جلبة في طارمة الدار، سقوط إبريق رش الازهار، المعدني .. غطّى ليو بكفه الممدودة أمام زجاج النافذة، صورة زوجته ماريان، التي كانت منغمرة في تشذيب أغصان الورد والياس، تقتلع الأعشاب الضارة المُحيطة بأزهار النرجس والجوري، وتنظف بفرشاة كبيرة بركة الماء التي طفت على سطحها أزهار الليلك البيضاء والبنفسجية ..تتحرك بخفة ورشاقة، رغم بدانتها، يهتز وركاها، ثدياها، زنداها، بطنها، بكلمة أخرى، تهتز كلها، كتلة مُهتزة هي ماريان ..
كفُ ليو تتحرك ، يميناً، شمالاً، أعلى، أسفل كفهُ تتخطف مع كل إنتقالة لها وكل قفزة، وكأن مرآى زوجته يعكر صفو صباحه، ويشوه لوحة الطبيعة الزاهية، المنغمس في سحرها ..
توقفت ماريان لبرهة، فأسدل ليو الستارة الى أقصى حد يُمكِّنهُ من رؤيتها، دون أن تراه، رفعت رأسها نحو النافذة التي توارى خلف ستائرها، أسندت يديها الى خصرها، ثم أطلقت صيحات متقطعة وهي تهتز، لم يستطع ليو سماعها بوضوح، لكنه يعرفها، كما لو أنه سمعها .. إنحنت ماريان غاضبة، رفعت إبريق الماء، ثم إنصرفت تقلع الاعشاب الضارة، بعصبية ..
تمدد ليو ثانية في فراشه، طوى يديه تحت رأسه وصالب ساقيه، لم يعد بوسعه النوم، لقد صحا تماماً، تبددت اللوحة الجميلة خلف النافذة، وتعكر مزاجه، كم سيكون النهار هادئاً، لولا الصخب الذي تثيره ماريان، بفعل ثرثرتها ومزاجها المتوتر؟
لايحلو لها شيء أكثر من التحويم والدوران حولي، تتطلع بملبسي، وجهي، ذقني،
يالها من نكدية !! صحيح إنها تحرص على ان تكون ثيابي ناصعة، معطرة ومكوية، وصحيح أنها من يقوم بكل ذلك، لكن تشديدها على أن تكون ذقني حليقة يزعجني، يالها من شديدة !! شديدة ونكدية !!
تطلع بساعته، التي كانت تشيرالى الثامنة إلا أربع دقائق، قال وكأنه يُحّدث شخصاً أمامه: أنظر ستنادي بأعلى صوتها بعد أربع دقائق بالضبط، وكأن أمراً فضيعاً على وشك الحدوث :
إنزل يانائم، إنزل ياكسول، إنزل بحق الجحيم، تك تك تك، باقي عشر ثوان، تسعة، ثمانية ، سبعة، واحد :
إنزل يانائم ، صاحت ماريان وهي تهتز ..
إنزل ياكسول ، إنزل بحق ال…..
سد ليو إذنيه بكفيه المفتوحتين، كي لاتخترق رأسه تلك العبارة التي يسمعها كل صباح، منذ أن أُحيلا على التقاعد، قبل خمسة أعوام، نزل السلم بخطى وئيدة، متثاقلة، لم يفلح بإخفاء تذمره من وطأة الاعباء التي توكلها اليه كل يوم، والتي تحول بينه وبين كسله اللذيذ في فراشه الدافيء، والإستمتاع بتأمل الطبيعة والإصغاء الى ترانيم الطيور.. والإسترخاء الذي طالما حلم به أيام خدمته الطويلة في شركة ال آر أي تي ..
صباح الخير .. ياليو ..
ردَّ بصوتٍ خافت ووجه متجهم :
صباح الخير ..
صحيح أنها ، تعد الفطور اللذيذ ، والقهوة بالمقدار الذي أحبه، وتحرص على أن تكون أصص الورد زاهية، بأزهار جديدة، لكنها تُصر على أن أتناول حبوب الضغط والسُكر قبل فنجان قهوتي الأخير .!! يالها من صارمة !!!
عليك ان تشذب شجرة التين ياليو، أغصانها إستطالت، إمتدت ذراعين خلف السياج .. قالتها، بينما كان ليو يحدق في بخار القهوة المتصاعد بفرح طفولي، تبسمت في داخلها، رمقته بنظرة ود، من خلف عدسات نظارتها الصغيرة الموصولة في خيط حول رقبتها، حمل ليو السلم الصغير، أسنده الى كتف السياج وراح يشذب الأغصان، وهو يدنن بأغنية قديمة، تمنى لو أن زوجته تغادره لشهر أو أسبوع، تمنى أن تسافر لوحدها الى شقيقيتها في مدينة آرنهم المحاذية للحدود الالمانية.. !!
سأتدبر أموري بدونها، سأنعم بالحرية والكسل !!! قالها وهو يتابع حركاتها وأهتزاز جسدها البدين بخفة ورشاقة ونشاط، ياله من صباح مشمس، أرخى ليو الستائر ببطء، أطل من زجاج النافذة، شجرة التين الأثيرة لدى ماريان، تساقطت أوراقها قبل آوان الخريف، جفت فوق حواف بركة الماء، وأكتست لون النحاس!!
الأعشاب الضارة إلتفت حول سيقان الورود البيضاء والحمراء والبنفسجية ، خنقت تيجان الجوري!!
حتى العصافير لم تعد تختصم على أغصان شجرة التين وعرائش العنب، تطلّعَ في ساعته، كانت تشير الى الثامنة إلا أربع دقائق، مرت اللحظات بطيئة، بطيئة، واحد، إثنان، ثلاثة، عشرة، إنها الثامنة، لكن أحداً لم ينادي..!!
مَدَّ كفه نحو زجاج النافذة، حركها يميناَ، يساراً أعلى، أسفل، لعل شبح ماريان يلوح له من خلف الزجاج، لعله يسمع إصطخاب خطواتها، وأهتزاز جسدها البدين، لكن الكف المرتعشة، عادت الى وجهه الشاحب، لتمسح الدمع المنهمر فوق ذقنه، التي لم يحلقها منذ عام .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة