هامش أوّل على «النار والغضب» !

حسن خضر
ينشر بالاتفاق مع صحيفة الأيام الفلسطينية
كل ما ورد من معلومات في «النار والغضب» أصبح، الآن، بين أيدي ما لا يحصى من الفلسطينيين والعرب في صورة مُلخصات، واقتباسات، وتلميحات، ناهيك عن حقيقة أن الكتاب نفسه أصبح في حوزة الكثيرين، لحظة صدوره. وقد وجد كل ما تقدّم تجليات مختلفة على منصّات التواصل الاجتماعي، وصفحات الإنترنت. وهذا كله من نِعم التكنولوجيا، ووسائل الاتصال الحديثة، التي جعلت العالم «قرية صغيرة». ولن يمر وقت طويل، بالتأكيد، قبل نشر الترجمة العربية للكتاب.
وما تجدر ملاحظته أن مايكل وولف نشر كتابه للتدليل على عدم صلاحية ترامب كرئيس للولايات المتحدة أولاً، وأنه فعل ذلك بالتسلل بين ثغرات فتحها صراع الأجنحة في البيت الأبيض، ما أتاح له الاطلاع، عن كثب، على أكثر من رواية للحادثة الواحدة ثانياً، وأنه لم يكن ليتمكن من نشر كتاب كهذا دون ضمانات حقيقية تكفل حرية النشر والتعبير ثالثاً، وأن الكتاب في ذاته، وبصرف النظر عن الطموحات المهنية لصاحبه، من تجليات صراع مُحتدم لا على البيت الأبيض وحسب، بل وعلى روح أميركا نفسها رابعاً، وعلى جانبي هذا الصراع المحتدم تصطرع شبكات أصحاب المليارات، والنصّابين، وممثلي تيارات ومصالح تعصف بأميركا والأميركيين خامساً، وأن في أميركا أميركات كثيرة، سادساً.
لذا، ما لم يحضر كل ما تقدّم كخلفية عامة تسبق فعل القراءة نفسه، وتُسهم في تفسير المقروء، ووضع ما يرد فيه من إشارات في سياق البنية السياسية والثقافية والأيديولوجية للثقافة الأميركية السائدة، فلن يتمكن أحد من القبض على دلالات بعيدة المدى، تجلّت في الكتاب، وهي تمس ما يحدث في أميركا ولأميركا، وبالتداعي ما يحدث بالعالم وللعالم في قرن وألفية جديدين. وما يحدث لا يُبشّر بالخير في أي مكان.
وفي السياق نفسه، كما كان الكتاب جزءاً من الصراع لا على البيت الأبيض وحسب، بل وعلى روح أميركا، أيضاً، فإن ما أحاط به من اهتمام العرب، وما تسرّب منه، باللغة العربية، في صورة اقتباسات، وتلخيصات، وإشارات، يُعتبر جزءاً مِنْ، ويعكس صراعاً محتدماً لا على واقع العلاقات العربية ـ الأميركية، والمسألة الفلسطينية، وحسب، ولكن على روح العالم العربي، أيضاً.
وما تجدر ملاحظته، هنا، أن الصراع على روح أميركا يختلف، تماماً، عن الصراع على روح العالم العربي. ففي أميركا، حيث حرية التعبير والنشر مكفولة (ربما لا تبقى كذلك في حال تكريس الظاهرة الترامبية) يصعب إخفاء الحقائق، أو تكريس وجهة نظر بعينها، ويفصل القضاء، وهو أعلى سلطة من رئيس البلاد، في صراعات كثيرة، كما يحتكم المختصمون إلى الدستور وتأويلاته المُختلفة، وفيه ضمانات كثيرة للحيلولة دون استيلاء جماعة بعينها على البلاد والعباد (حتى الآن في الأقل).
أما الصراع على روح العالم العربي، فيحدث في غابة، بالمعنى الفعلي والمجازي، ويحتكم إلى قانون الغاب. المخفي منه بقوة الدولة الشمولية، والموروث الديني والثقافي، وسلطة المال، وسلاح القتل (إذا استدعى الأمر) أقوى بما لا يُقاس من المعروف والمُتداول. وهذا، بدوره، يتضافر مع عدم وجود تقاليد ديمقراطية، وغياب مُطلق، فادح وفاضح، للحق في حرية التعبير في مكان، وهشاشته في مكان آخر. ومع هذا كله، لا تشتغل نظم التعليم المركزية على بناء العقل النقدي، وتدريب أجيال متلاحقة في المدارس والجامعات على معرفة الحقيقة، ولا تشتغل أجهزة الإعلام كوسيط بينهم وبينها، بل تعمل في التعليم، كما في الإعلام، كمنتج لحقيقة غالباً ما تكون مجرّد قناع كاذب.
لذا، لا يعرف الناس حقيقة الصراع في بلادهم وعليها، وفي هذا ما يجعل منهم مستهلكين، ومُنتجين، مثاليين لنظريات المؤامرة، والشائعات، وأنصاف الحقائق. وعلى الرغم من حقيقة أن تحويل العالم إلى قرية صغيرة فتح نوافذ إضافية، وفضائية، يطل منها الناس على ما يحدث لهم، وللعالم، إلا أن نوافذ العرب لا تنتج الحقيقة بقدر ما تُسهم في تشويهها، وهي في كل الأحوال مجرّد بوق لممولين على طرفي خط التماس. وفي هذا، أيضاً، ما يعزز ذهنية المؤامرة، ويعمّق إحساس العربي بالضحوية، ويجعل من الحقيقة ضحية دائمة.
وإذا كان في الإمكان تعريف الصراع على روح أميركا بوصفه صراعاً على معنى الدولة الاتحادية كفكرة، وإمبراطورية، والعودة بمكوّناته الرئيسة إلى الغزو الكولونيالي، وحرب الاستقلال، والحرب الأهلية، والخروج إلى العالم في الحربين العالميتين الأولى والثانية، فإن الصراع على روح العالم العربي يبدو إشكالياً إلى حد بعيد.
وبقدر ما أرى الأمر، يضم العالم العربي اثنتين وعشرين دولة، وعلى الرغم من وجود خصائص دينية وثقافية (لغوية في المقام الأوّل) مشتركة، إلا أنها لا تكفي لإلغاء، أو التقليل من شأن، خصائص تاريخية واجتماعية، وتجارب تكوينيه، تُميّز هذا البلد عن ذاك، ولا يندر حتى أن يكون الديني والثقافي، في صيغتيهما المحلية الخاصة والخصوصية من عوامل التمييز والاختلاف. وبرغم أن ستمائة عام، تقريباً، تفصلنا عن ابن خلدون، إلا أن إشارته إلى صراع البداوة والحضر، بوصفه مدخلاً لفتح مغاليق ما ندعوه، اليوم، بالتاريخ العربي ـ الإسلامي يظل صالحاً وقابلاً للتداول كأداة تحليلية.
نستكمل، فيما بعد معالجة الصراع على روح العالم العربي، وبعدها نصل إلى ما ورد في الكتاب عن ترامب والسعودية وفلسطين وإسرائيل وإيران، لأن كل ما ورد يتصل بالصراع على روح العالم العربي، وتمكين طرف بعينه من الفوز. ثمة ما يتجاوز الرغبة في التلخيص، ناهيك عن حقيقة أن هذا كله يوجد على الإنترنت، الآن. ولن نفهم ما نقرأ عن هؤلاء من دون سياق أعرض يكون هامشاً «للنار والغضب»، لا يكشف «أسراراً» بل يسعى لتفسير ما انفضح.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة