“الرصاص الطائش”.. تقليد عشائري يزدهر بالمدن ويصيب العراقيين بالجملة

متابعة الصباح الجديد:

بدلا من أن يتم زفافه الى عروسه زُف الشاب احمد من مدينة الفلوجة الى قبره بعدما اصيب برصاصة طائشة قتلته على الفور أطلقها احد الأصدقاء في يوم الزفاف فرحا بهذه المناسبة، إذ أن طقوس الاحتفال بالمناسبات السعيدة او الحزينة في العراق لا تكتمل من دون إطلاق الرصاص العشوائي في الهواء.
حادثة احمد لا تعدو سوى قصة من مئات القصص التي مرت على العراقيين سنويا ويتداولون صوره ومقاطع فيديو خاصة به على مواقع التواصل الاجتماعي، وهكذا أصبحت الظاهرة عرفا مجتمعيا اقوى من القوانين والإجراءات الأمنية الصارمة، ولكن تصاعد نسبة الإصابات بين السكان مؤخرا اجبر الحكومة على إعلان حملة جديدة لمكافحة الظاهرة.
رئيس الوزراء حيدر العبادي أعلن في بيان رسمي “باتخاذ إجراءات رادعة وعاجلة لمنع ظاهرة إطلاق العيارات النارية في المناسبات ومحاسبة المسؤولين عنها”، كما أعلنت وزارة الداخلية في بيان اعتقال سبعة أشخاص أطلقوا الرصاص في الهواء خلال الأسبوع الماضي.
حفلات الزواج ومراسيم تشييع الموتى وفوز المنتخب الوطني بكرة القدم في البطولات الدولية هي اكثر المناسبات التي تشهد إطلاق الرصاص، الأسبوع الماضي أعلنت وزارة الصحة مقتل شخص وإصابة (19) آخرين بمناسبة فوز المنتخب العراقي في بطولة الخليج.
هذه الظاهرة تزايدت بعد العام 2003، ضعف سلطة الدولة واخفاق القوات الامنية في فرض الأمن اجبر السكان على اقتناء اسلحة تحتفظ بها في منازلها، حتى ان حكومة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي أصدرت قرارا صريحا في العام 2012 يسمح لكل منزل بحيازة قطعة سلاح واحدة بندقية او مسدس على أن يقوم مالكها بتسجيلها في اقرب مركز شرطة، ولكن الكثير من العراقيين لا يقومون بمراجعة مراكز الشرطة.
بل ان هناك أسواقا في بغداد وعدد من المدن متخصصة في بيع وشراء الاسلحة حتى المتوسطة أشهرها سوق مريدي في بغداد الواقع في قلب “مدينة الصدر” ذات الغالبية الشيعية الفقيرة، وشهد السوق الأحد الماضي حملة عسكرية لملاحقة التجار ومصادرة الأسلحة.
الصدمة كانت واضحة على العراقيين وهم يشاهدون نتائج الحملة التي أعلنتها القيادة العسكرية المكلفة بأمن بغداد، الآلاف من قطع السلاح تشمل البنادق الآلية والمسدسات وحتى أسلحة “ار بي جي” المضادة للدروع، مكائن خراطة لصناعة وتحوير بعض قطع السلاح والذخائر.

أعراف قبلية
تعود الظاهرة في الحقيقة إلى تقاليد عشائرية نشأت في عشرينات القرن الماضي، وتحديدا خلال “ثورة العشرين” بعد تحالف عشائر في وسط وجنوب البلاد ضد الاحتلال البريطاني آنذاك، وبدأت العشائر للمرة الاولى تحصل على الأسلحة الخفيفة من البنادق والمسدسات عبر مهاجمة ثكنات الجنود البريطانيين وشرائها من الدول المجاورة أشهرها بندقية “البرنو”
في تلك الثورة كانت كفة الجيش البريطاني هي الراجحة لامتلاكهم المدافع الثقيلة بينما كانت البنادق هي سلاح العشائر وكانت أعدادها محدودة ولا يمنح سوى لبضع مقاتلين ضمن القوة العشائرية التي تهاجم البريطانيين، كما يقول الشيخ حيدر الرميثي احد شيوخ عشائر محافظة ميسان.
الرميثي هو احد احفاد مقاتلي العشائر آنذاك، يقول، “ما زلنا نتناقل قصص تلك الثورة وشعارها الازلي “الطوب احسن لو مكواري”، والطوب في اللهجة الشعبية هي المدافع، و”المكوار” هو السلاح الأكثر شعبيا لدى العراقيين في تلك الايام ويتكون من عصا غليظة تنتهي بكرة صلبة من القار وبإمكان ضربة واحدة أن تشج بها رأس الخصم وتقتله ويسمى سلاح الشجعان لكونه يختلف عن الأسلحة النارية التي تقتل عن مسافة بعيدة.
كانت معظم أسلحة القوة العشائرية المهاجمة “المكوار” بينما تمنح بنادق “البرنو” الى بعضهم بسبب شحتها وصعوبة الحصول على ذخيرتها، ورغم حاجة العشائر الى البنادق والرصاص آنذاك إلا أنهم لم يبخلوا بإطلاق الرصاص في الأفراح والأحزان، ومنذ ذلك الوقت نشأت هذه الظاهرة الى جانب “العراضة”، كما يقول الرميثي.
و”العراضة” رقصة شعبية يقوم بها افراد العشائر بالمشي ليشكلوا حلقة مدورة وهم يمسكون البنادق في أيديهم لإطلاق الرصاص وفي منتصف الدائرة يتلو احد الشعراء قصيدة بالمناسبة التي اجتمعوا من اجلها سواء كانت حزينة ام سعيدة.
ويعترف الرميثي أن ظاهرة اطلاق الرصاص العشوائي في الافراح والاحزان ليست حضارية، ولكنه يؤكد صعوبة منعها، ويقول: “بصراحة هناك الكثير من ابناء العشائر يعتبرون عدم اطلاق الرصاص في مناسباتهم اهانة”، ولكن الرميثي يرفض بشدة انتقال هذه الظاهرة الى المدن وخصوصا بغداد ويعتبرها إرثا عشائريا مرتبط بالريف العراقي جنوب البلاد.
ومنذ عقود تتجنب السلطات الاصطدام مع العشائر لما تملكه من نفوذ واسع، بل أن الحكومات المتعاقبة كانت تغازل زعماء القبائل عبر منحهم أسلحة، وغالبا ما تغض القوات الأمنية النظر عن الموروث العشائري في القرى والارياف، ولكن انتقال ظاهرة إطلاق الرصاص العشوائي الى بغداد يثير قلق الحكومة والسكان على حد سواء، وتبدو محاولة الحكومة لمنعها غير مجدية.
النقيب في شرطة نجدة بغداد سامر هادي يقول “السلاح منتشر بين السكان على نحو كبير ولا يخلو منزل من قطعة سلاح، أوقات الاحتفالات يحدث إطلاق رصاص كثيف لا نعرف مصدره، وعندما نلقي القبض على شخص متلبس بذلك يحاول استخدام منصبه او منصب احد أفراد عائلته للإفلات من الاعتقال”.
ويضيف النقيب هادي أن “بعضهم أفراد في الحشد الشعبي وآخرون موظفون في مناصب عليا في الدولة، حتى ان عناصر في الشرطة والجيش متورطون بذلك ويستخدمون أسلحة الحكومة مثل مسدسات كلوك وبندقية كلاشنكوف رغم العقوبات القانونية الصارمة”.
ينص قانون ما زال ساريا على المستوى الوطني يحمل الرقم 15 لسنة 2000 على حبس مطلق العيارات النارية مدة لا تقل عن شهر ولا تزيد عن ستة أشهر، وتغريمه مبلغا لا يقل عن (50000) خمسين ألف دينار ولا يزيد على (1000000) مليون دينار، ومصادرة السلاح الشخصي مع الذخائر، ولكن هذا القانون يحتاج الى جهود جبارة لتطبيقه على الجميع دون تمييز بين المواطنين، وفقا للنقيب هادي.
النائبة في البرلمان العراقي منى الغرابي، تعتقد بان على الحكومة تشديد العقوبة أكثر، وطالبت في بيان رسمي بمحاسبة مطلقي الرصاص العشوائي وفق قانون مكافحة الإرهاب، وتدعو إلى تدخل العشائر والحملات المدنية لوقف الظاهرة.

* عن موقع نقاش

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة