نحو عراق جديد سبعون عاماً من البناء والإعمار

هشام المدفعي
اعتادت الصباح الجديد ، انطلاقاً من مبادئ أخلاقيات المهنة أن تولي اهتماماً كبيرًا لرموز العراق ورواده في مجالات المعرفة والفكر والإبداع ، وممن أسهم في إغناء مسيرة العراق من خلال المنجز الوطني الذي ترك بصماته عبر سفر التاريخ ، لتكون شاهداً على حجم العطاء الثري والانتمائية العراقية .
واستعرضنا في أعداد سابقة العديد من الكتب والمذكرات التي تناولت شتى صنوف المعرفة والتخصص وفي مجالات متنوعة ، بهدف أن نسهم في إيصال ما تحمله من أفكار ورؤى ، نعتقد أن فيها الكثير مما يمكن أن يحقق إضافات في إغناء المسيرة الإنمائية للتجربة العراقية الجديدة .
وبناءً على ذلك تبدأ الصباح الجديد بنشر فصول من كتاب المهندس المعماري الرائد هشام المدفعي ، تقديرًا واعتزازًا بهذا الجهد التوثيقي والعلمي في مجال الفن المعماري ، والذي شكل إضافة مهمة في مجال الهندسة العمرانية والبنائية وما يحيط بهما في تأريخ العراق .
الكتاب يقع في (670) صفحة من القطع الكبير، صدر حديثاً عن مطابع دار الأديب في عمان-الأردن، وموثق بعشرات الصور التأريخية.
الحلقة 36
الفصل الخامس عشر
أيام المحنة

اعتقالي من قبل المخابرات
كنت جالسا في حديقة داري بالمنصور مساء يوم 16 تموز 1986 ، وفي نحو الساعة الثامنة مساء ، بعد زيارة موفق العلاف مباشرة ، قرع جرس الباب الخارجي للكراج ،فذهبت لفتحه واذا بمجموعة من الشبان بملابس مدنية ، سألني احدهم : هل انت هشام المدفعي ؟ قلت : نعم . طلب مني عنوة ان ادخل معهم الى احدى سياراتهم ، وفي الوقت نفسه قاموا بتفتيش سريع لحديقة الدار . لم يكن لديهم اي امر رسمي بتوقيفي او اي اجراء اخر ، ولم يجبني احد على استفساراتي . واذا باحدهم يصيح : سيدي هذه الحقيبة موضوعة خلف باب الكراج . بدا لي بوضوح ان موفق العلاف قد وضعها هناك اثناء زيارته لي .
اختطفتُ من داري واركبت احدى سياراتهم ، عصبوا عيني بقطعة قماش اسود وحشروا رأسي بين فخذي ، وانا بين مصدق ومكذب .
ما هذا الاجراء ؟ ما السبب ؟ ماهي الحقيقة ؟ … لاادري . وكل ما علمته انني دخلت احدى دوائر المخابرات او الأمن .
عند دخولي دائرة المخابرات ، اجبرت على خلع ملابسي ، والبسوني بجامة الموقوفين ، واقتادوني الى مكتب مديرهم ، حيث كان عدد من المسؤولين هناك . دخلت المكتب والرعب في قلبي ، واول من سألني المقدم عبد … عن امور عامة ، ولما سألته عن سبب هذا الاجراء ، طلب مني ان اتصل بعائلتي وابلاغهم بأني بخير ، وان الامر هو بعض الاستفسارات ، وساعود بعدها الى داري بخير .
اقتادني احد الافراد وانا معصوب العينين الى منطقة شبه مفتوحة او مكشوفة ، وطلب مني البقاء واقفا . ممنوع الجلوس ، الوقوف على رجل واحدة ، انحناء الى الامام ، رفع اليد الى الاعلى ، وغيرها من الحركات التي تستغرق كل حركة نحو ربع الساعة . ثم اقتادني وانا مرهق معصوب العينين ، وادخلني غرفة واغلق الباب الحديدي علي .
اين انا ؟ ولماذا ؟ والى متى في هذه الزنزانة ؟ لا اعرف شيئا سوى اني لم اقم بعمل خاطئ .
بعد ايام وانا حبيس الزنزانة ، بلا اي شيء سوى بطانية افترشتها . لون الجدران بني ، والسقف مرتفع ، وطول الزنزانة اربعة امتار وعرضها مترين ، منها متر واحد جعل مرحاض وحنفية . شباكها الوحيد قرب السقف بارتفاع 50 سم على عرض الغرفة . الباب الحديدية غليظ فيه فتحة لتسلم الارزاق . الهواء مكيف والانارة من مصباح نيون ينير الغرفة على مدار اليوم . خطت على جدران الغرفة كتابات لموقوفين سابقين ، وكلها تدعو الى اليأس والقنوط والقهر . ارض الغرفة ساحة تلعب بها الحشرات المختلفة . اسمع كل حين فتح الابواب الحديدية واغلاقها بقوة . التحقيق يجري ليلا في سراديب هذا البناء القبيح . اصوات الجلادين تسمع مع اصوات صراخ ( المتهمين ) .. واوامر الحرس ترن في ذهني واذهان الموقوفين . بقيت لعدة ايام لا افرق فيها بين الليل والنهار، دون ان يسأل عني وعن قضيتي احد .
فُتح باب الزنزانة في مساء احد الايام ، وألبسوني الغطاء الاسود ، واقتادني احد الافراد الى الطابق الاسفل من البناية . قدم الذي اقتادني التحية العسكرية بقوة ، وقال : سيدي هذا فلان . بقيت واقفا لفترة طويلة دون سؤال او حركة .. وبدأ التحقيق معي .سُئلت اولا عن اسمي وعملي وعائلتي وانتمائي .. الخ . وكنت اشعر ان هناك من يسجل وقائع التحقيق . كانت العملية وكأنها حرب اعصاب ليشعر الانسان بالانهيار ، فكل كلمة او عبارة توجه اليك تحمل معاني الاهانة والتهديد .
من الافضل لك ان تعترف ؟ اذهب .. اعادني الشخص نفسه الى زنزانتي ، ولم اعرف ماذا يراد مني .
بعد اسبوع فتح الباب الحديدي للزنزانة مساء ، وألبست القناع الأسود ، واخذت الى مكتب المدير . بعد ازالة القناع سألني المقدم عبد عن شخصي وطبيعة عملي قبل ان يوجه الي تهمة عرقلة اعمال موفق العلاف بغية استحصال مبالغ منه ( رشاوى ) ، وقال ان هذه طرق المهندسين في الحصول على المال غير المشروع . بينت له ما اعرفه كما مر ، وقلت له باني اعتبر كل هذا اعتداء على كياني لكوني مواطناً مخلصاً لعملي ولمسؤولياتي . اتهمني بان الحقيبة التي وجدت في داري هي حقيبة موفق العلاف التي جلب فيها المال الذي طلبته منه ! ، نفيت الامر جملة وتفصيلا وهي عملية مبيتة لاتهامي عن طريق هذا الكمين المفضوح .
وبعد اسبوع اخر في الزنزانة ، اقتادني احدهم الى غرفة المحقق ، فطلب مني الاعتراف عن امور ، وكيف كان تصرفي في حياتي مع الاخرين ؟ قال ساصحبك الى غرفة مليئة بالثعابين والعقارب ، انزلني اثنان الى الاسفل ، وادخلت الغرفة ، وبدأ كلاهما بالضرب المبرح على رأسي وظهري بالعصي ، لم استطع تفادي الضرب بعد ان طرحت ارضا . وازداد الضرب طالبين مني الاعتراف بشيء ما . ولما قلت لهم بأن لايوجد ما اعترف به ، توقف الضرب واعادوني الى زنزانتي وانا مكسور النفس ، مهان ، وآثار الضرب بادية على جسمي ، وانا اسأل نفسي : هل تستحق هذه الحياة ان نحياها ؟
دامت فترة التحقيق على هذه الوتيرة زهاء ثلاثة اشهر ، تخللها الكثير من الإهانات وحرب الأعصاب وأنواع التعذيب والصفع المفاجئ . ومنها نقلي الى زنزانة اخرى لسبب لا اعرفه ، وشعرت ان هذه الزنزانة خالية من الهواء . الا اني وجدت فتحة ضيقة بين باب الزنزانة والارض ، فكنت انبطح على الارض واقرب انفي من هذا الشق تحت الباب لاستنشق الهواء . بقيت في هذه الزنزانة الرهيبة لايام لا اعرف عددها .
لم اكن قد مارست العمل السياسي . لكني سمعت ان بعض السياسيين مروا بمثل هذه الادوار بعد ان سمعوا من رفاقهم عنها ، فدربوا انفسهم على مواجهتها . لذا كان تاثير هذه الاشهر عظيما علي . في تلك الاجواء البائسة يبدأ المرء بالتفكير بكيفية التخلص من هذا العذاب والارهاق وتحطيم الاعصاب . صراخ المعذبين يسمع ليلا ويتسلل من غرف التعذيب بوضوح مثيرا الرعب واليأس . آثار الدماء على جدران الزنزانات اصبح أمرا اعتياديا . كل هذا لكسر النفس البشرية ، والقبول بأي تهمة توجه للانسان ويعترف ولو كذبا للتخلص من هؤلاء الوحوش .
اثناء التحقيق سألوني عن جميع العاملين معي ومنهم عبد الوهاب المفتي ورفعة الجادرجي ومعاذ الآلوسي والمهندسين الاخرين . وبكل امانة قلت ما اعرف عن هؤلاء الأصدقاء ، ولم اذكر اي شيء يسيء لهم من بعيد او قريب . بينت عملهم المتميز واندفاعهم المخلص في اعمالهم ، ولم اذكر خلاف ذلك ، بسبب اني لا اعرف غيره .
اما عن عبد الوهاب المفتي الذي كان موقوفا في غرفة اخرى لا اعلم بها ، فقد سلموني اوراقا وقلماً ، وكتبت ما اعرف من اندفاع هذا المهندس والدؤوب في عمله امينا للعاصمة او غيرها من الوظائف ، وبينت لهم انجازاته في الجهد المدني وطريق غرب دجلة في منطقة الاهوار واعماله في مؤسسة الطرق والجسور وسواها . لخصت قولي بان المفتي كان مهندسا عملاقا متفانيا في عمله ، يستحق التقدير والثناء ، على قدر معرفتي به والاعمال التي اشتركنا سوية في انجازها . ومن المؤسف ان شهادتي لم تكن ذات فائدة اذ ان التحقيق معه كان حول امور اخرى .
لم اعرف كيف اتخلص من المحنة التي المت بي بعد كل تلك الجهود التي بذلتها باخلاص طيلة حياتي المهنية . سئمتُ الحياة ، وتضاءلت فرص التخلص من تلك المحنة القاسية .
لا اعرف ماذا اعترف وانقذ نفسي من هذا العذاب والرعب . قررت ان اذكر امام المحقق حقائق بسيطة للغاية ، لعلها تفيدني في التحقيق وانقاذ نفسي . كانت احدى الشركات بعد انجازعملها ، قد فاضت لديها كميات من بلاطات السيراميك ، ولما علم مديرها بأن داري في مزرعتي في صدر القناة قيد الانشاء ، فقد اهداني ثلاثمائة متر مربع من الكاشي لتبليط ارضية داري بالمزرعة . وقد قبلت هدية (ساعة يدوية) من احدى الشركات احتراماً لانجاز المشروع وجهودهم في ذلك ومشاعر الكرم بعد انجاز عملها بكل كفاءة ونجاح ، قدمها لي مديرها العام هدية منه احتراما وتقديرا وتثمينا لما اتخذته من قرارات لاكمال العمل بالشكل المطلوب ، ولمصلحة مدينة بغداد . وكان رجال المخابرات الذين صادروا جميع مفاتيح داري ، قد ذهبوا الى مكتبي في الدار للتفتيش فسرقوا الساعة التي احتفظ بها والعديد من الاحجار الكريمة التي كنت اعتز بها كنت قد جمعتها في سفراتي الى كربلاء والنجف والزيارات الخارجية . كما ان احدى الشركات الهندية ، لما علمت بان زوجتي مصابة بسرطان الثدي وتعالج في لندن ، بادر احد شركاء الشركة في لندن الى ابداء مساعدته برعاية زوجتي عند الحاجة , واستناداً الى هذه الواقعة, اجبرت قسراً في احد الليالي ان ارتدي بدلة جلبوها من داري واعترف بأني تسلمت مبالغ من الشركة الهندية , رغم اني انكرت ذلك نهائياً وبينت براءتي من اي تهمة مماثلة ولم اتسلم مبالغ ياله من ارهاب .
في الجلسة التالية للتحقيق ، قررت ان اذكر تلك الوقائع ، كي انقذ نفسي من هذا المأزق ومن هذه الحياة ، وليكن ما يكون بعد ذلك . فطلبت من المحقق ان يسجل اعترافي بتلك الوقائع . وكان ذلك للمخابرات والمحققين امر مهم يعدونه اعترافا يمكن ان تبنى عليه تمثيلية تنسج وتحاك وتسجل . وبعد ذلك سجلت لدى حاكم التحقيق الخاص بالمخابرات ، ويسمى حاكمية المخابرات . فعدت تلك الاعترافات تخريباً للاقتصاد الوطني يعاقب عليه القانون . لم اكن مهتما بما سيجري اذ كنت برما بالحياة ، اضافة الى ان ذلك لايعد تخريبا باي حال من الاحوال .
يعرف الكثير من العراقيين ظهور شخصيات كبيرة ، اعترفت بالتجسس والعمالة للاجانب تحت ضغط شديد ،مثلا المرحوم مدحة الحاج سري امين العاصمة الاسبق الذي ظهر في تلفزيون بغداد ليعترف بالتجسس والعمالة لدولة اخرى ، مع ان جميع العراقيين لم يصدقوا ذلك واعتبروه من مهازل حكم البعث ومآسيه .
****
اعترافات عبدالوهاب المفتي
لم اهمل عملي في يوم من الايام ولم اتورط بأي عمل ضد مصلحة البلد او مدينتي بغداد ، ولم اقدم على ارتكاب جرم . ولم يرد في مخيلتي ان اقبل مبلغا من مقاول مهما كان ذلك . كنت اتقاضى من الدولة راتبا كبيرا (1000 دينار) شهرياً (أي 3250 دولار شهرياً) في سنة 1980-1986 وهذا مبلغ غير قليل في تلك الفترة ولم احتج لاحد ، فلدي داري واملاكي واولادي يمارسون اعمالهم . ومكتبي يدر ارباحا معقولة من العمل الاستشاري . ولكن القانون لايفرق بين الدينار الواحد والملايين .
بعد هذا نقلت الى قاعة كبيرة في صباح احد الايام ، واذا بي ارى هناك نحو ثلاثين من موظفي الدولة واخرين . من هؤلاء كان هناك شخص لم اتبينه بسهولة ، اذ كان اشبه بالعمود الفقري ، ضعيفا ، مسحوقا ، لم اصدق عيني عندما تقدم تجاهي وعرفت انه عبد الوهاب المفتي امين العاصمة السابق . كان معه نحو خمسة وعشرين من مدراء المشاريع الكبيرة ورؤساء المهندسين والمقاولين والمحاسبين مع شخص بريطاني الجنسية ، كما كان موفق العلاف هناك ايضا . اعطوني مكانا وفرشت بطانيتي واعطوني بطانية ثانية كغطاء . كان جوا رهيبا ، لا احد يتكلم . وقد ابدوا استغرابهم من وجودي معهم .
بعد ان جلستُ على بطانيتي ساهما مستغربا من هذا العدد الكبير من المسؤولين والمهندسين ، جاء عبد الوهاب المفتي ورحب بي وقال لي بكلمات قصيرة : هشام .. اعتقد اني لم اذكر اسمك بسوء ، ولم اكن سببا في وجودك هنا . ثم اخذ من يعرفني يتجمع حولي مستغربا مستفسرا .. الامر لايتطلب الكلام بالتفصيل ، فموفق العلاف كان موجودا بينهم وهو يعرف بعض ما حدث معي لكونه سبب مأساتي . تعرف كل منا على الاخرين في هذه القاعة الكبيرة نسبيا ، وكل منا بين قصة وجوده في حاكمية المخابرات بالمفهوم الذي يعرفه .
معظم الجماعة التي التقيتها في تلك القاعة من مؤسسة الطرق والجسور ، ولكل منهم قصة اتهم بها بالتخريب الاقتصادي في تلك المؤسسة التي كان عبد الوهاب المفتي رئيسا لها قبل توليه امانة العاصمة . جلس بجانبي عبد الوهاب المفتي وحدثني بكل صراحة عن قضيته ، فقال :
هشام انت تعرفني جيدا منذ سنوات طويلة ، وتعرف بأني كنت اعمل كمقاول ، اضافة الى عملي الحكومي ، فانا لا احتاج الى المال لأن الله مفضل علي . وكنت قد احلت مقاولة ربط شبكة مشروع ماء الكرخ مع شبكة ماء الرصافة بمبالغ كبيرة . وكان وكيل الشركة التي تنفذ هذا الجزء من العمل هو المحامي اكرم شـماس وتعمل معه سكرتيرة جميلة . بلغت العمولة التي اخذها اكرم شـماس نحو خمسة ملايين دولار ، الا انه كان يدعي بأن العمولة هي باسم عبد الوهاب المفتي .
نقل اكرم شماس مكتبه الى لندن لكي يعمل من هناك على اعمال اخرى واكبر . وقد يساعد مكتبه هذا في مساعدة المفتي في اعماله الكبيرة التي أنيطت به لتنفيذ مشروع ميناء الفاو الكبير. طلب اكرم شماس من عبد الوهاب ان يساعده في الحصول على جواز سفر سمة خروج ، لنقل سكرتيرته الى لندن ، لأنها كانت انيستهم وتقضي معهم الليالي في بغداد ، وسيكون وجودها في لندن مفيدا . فاصدر عبد الوهاب امرا بتعيين السكرتيرة مهندسة في امانة العاصمة ، ثم اصدر امرا بايفادها الى انكلترا للتدريب مع شركة معينة . الا انها بعد حصولها على جواز السفر مزقت جميع تلك الاوامر لكي لاتصل الى ادارة الامانة معلومات عنها ويتم الاستفسار عن اولياتها القانونية . وبعدها سافرت الى انكلترا .
اكد عبد الوهاب المفتي لي انه لم يطلب عمولة ، ولم يستلم من اكرم شماس اي مبلغ ، وهو لايحتاج مبالغ لافي العراق ولا خارجه . غير انه لما القي القبض عليه وجدت في حقيبته الخاصة دفاتر صكوك ، تعود الى بنوك اوربية . ادعى بانها تعود الى خال اولاده وهو شخص ثري متمكن . لكنه لم يشرح لي سبب وجود هذه الصكوك في حقيبته ، وربما كان حسابهما مشتركا .
اتضح ان تلك السكرتيرة كانت حلقة من الحلقات المخابراتية لمراقبة امين العاصمة ومراقبة تحركاته وعلاقاته . فبعد عدد من الزيارات الرسمية الى لندن ، وتنفيذ الاعمال الرسمية نهارا ، والليالي الصاخبة ليلا ، اصبحت حياتها مملة في لندن . وفجأة عادت الى بغداد تاركة اكرم شماس في لندن ، وقدمت تقريرها ووثائقها الى دائرة المخابرات ، لينهار صرح امين العاصمة عبد الوهاب المفتي !
القي القبض على المفتي ، ولم يستطع اثبات عدم وجود علاقة له مع اكرم شماس ، ولا مع الشركة المقاولة التي كان مهندسها ببغداد موقوفا في المخابرات ، وموجود معنا في القاعة الكبيرة .
حدثني عبد الوهاب بهذه التفاصيل وهو منكسر النفس ضعيف بعد ان فقد ما لايقل عن ثلاثين كيلوغراماً من وزنه واصبح شبيها بالهيكل العظمي . ومن المحزن ان اذكر ذلك ، واتذكر انه كان قبل هذا يدخن نحو 120 سيكارة يوميا ، وجميع من في مكتبه يعمل لخدمته وراحته ليلا ونهارا ، واصبح الان يتسلم ثلاث سكائر يوميا ، ويتوسل حرس القاعة مستجديا عود الثقاب لاشعال سيكارته .. يالها من حياة .
اما الموقوفون الاخرون في القاعة ، فكلهم لهم صلة مع مؤسسة الطرق والجسور او عبد الوهاب المفتي ، ولكل واحد قضية . احدهم كان متهما بقضية الف دينار مع مقاول ، والثاني مقاول يعترك الحياة لبناء مستقبله ، وقد اتهم باعطاء ثمانية الاف دينار مساعدة الى مهندس هارب ، واخر رئيس مهندسين متهم بمساعدة شركة اجنبية واخذ مبالغ . ومجموعة اخرى متهمة مع عبد الوهاب المفتي بقضايا مادية ، وكل واحد منهم يذكرها بطريقة تختلف عن الاخر . اما المهندس البريطاني ، فقد ساعد على تمرير عملية اكرم شماس بشكل قد يكون مقصودا او غير مقصود . وبعض المحتجزين غير متهمين في قضايا ، بل كانوا محتجزين لعدة اشهر كي لايتحدثوا بقضايا تم التحقيق فيها معهم .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة