د.نعمه العبادي*
يعد التحول في مفهوم الأمن نتيجة منطقية لتغير المشهد الدولي بشكل نوعي؛ وهو ما أدى لإعادة النظر في كافة الافتراضات الأساسية للمعادلة الأمنية في العلاقات الدولية.
فمن ناحية لم يعد الفعل والتأثير في العلاقات الدولية حكرًا على الدولة القومية؛ إذ أصبح هناك فاعلين دوليين من غير الدول كالمنظمات الحكومية الإقليمية والدولية، والمنظمات الدولية غير الحكومية ،والجماعات المسلحة المحلية أو العابرة للحدود.
ومن ناحية أخرى حدث تحول في طبيعة مصادر التهديد للدولة القومية؛ إذ لم يصبح التهديد العسكري الخارجي هو مصدر التهديد الوحيد لأمن الدولة (كما يفترض أنصار المنظور الواقعي). فالدولة أصبحت الآن تواجه بأنماط عدة من مصادر التهديد، والتي ليست بالضرورة مصادر عسكرية، ومنها تجارة المخدرات عبر الحدود، والجريمة المنظمة، وانتشار الإرهاب الدولي، وانتشار الأمراض والأوبئة كالإيدز، وانتشار الفقر، والتلوث البيئي… إلخ. وعجز المنظور التقليدي للأمن عن التعامل مع تلك القضايا؛ إذ إن التهديد في معظم الأحيان غير مرئي أو واضح. كما أن القوة العسكرية لا تصلح كأداة لمواجهة تلك الأنماط من مصادر التهديد الذي قد تفوق آثاره المدمرة آثار التهديد العسكري المباشر، فتشير الإحصاءات إلى أنه خلال العقد الماضي تم إنفاق 240 بليون دولار على علاج الإيدز في العالم، وهناك 24 شخصًا يموتون جوعًا كل دقيقة. والأخطر من ذلك أنه لا يمكن لأي دولة أن تغلق حدودها أو أن تستخدم القوة العسكرية للحيلولة دون انتشارها. والخلل الاقتصادي والسياسي في أي مجتمع لم يعد يقتصر على المواطنين فقط بل تمتد تلك الآثار لخارج الحدود في صورة تلوث، وأمراض وأوبئة، وإرهاب، ولاجئين. ومن ثم يتطلب التعامل معها تعاونًا على المستوى العالمي وبأدوات مختلفة.
وكان لزامًا أن يؤدي ذلك إلى تغير أجندة العلاقات الدولية، فشهدت العقود الأخيرة مزيدًا من التركيز على مجموعة من القضايا، ومنها قضايا تلوث البيئة، والانفجار السكاني، وقضايا اللاجئين، وقضايا الأمن البحري، وغيرها من القضايا العالمية،وأخيرا موضوع مكافحة الإرهاب الذي تصدر كل الأولويات وأستنفد الكثير من المال والجهد البشري لدى أغلب دول العالم. ولم يصبح بمقدور دولة واحدة السعي لتحقيق أمنها منفردة، فلم تمنع القوة النووية التي كان يملكها الاتحاد السوفيتي والتي كانت تكفي لتدمير العالم عشرات المرات من تهاويه. وعلى جانب آخر حدث تحول في طبيعة الصراعات ذاتها؛ إذ أصبحت معظم الصراعات داخلية بين الجماعات والأفراد وليست بين الدول، فتشير الإحصاءات إلى أنه من بين 61 صراعًا شهدها عقد التسعينيات من القرن العشرين كان 58 منها صراعًا داخليًا -أي بنسبة 95% تقريبًا- و90% من ضحايا تلك الصراعات من المدنيين وليسوا عسكريين ومعظمهم من النساء والأطفال. فالصراعات أصبحت بين جماعات وليست بين الدول والضحايا فيها من المدنيين. ومصادر التهديد الأساسية للدول لم تعد مصادر خارجية فحسب، بل أصبحت من داخل حدود الدولة القومية ذاتها، ومثال النزاعات المسلحة في أفريقيا من الصومال إلى رواندا إلى ليبيريا ،وهكذا دول أوربا الشرقية ،وأخيرا ما يسمى بدول الربيع العربي ،فما تشهده ليبيا واليمن ومصر وسوريا خير مثال على ذلك.
ويتسم هذا النمط من الصراعات الداخلية بشدة التعقيد والتشابك وارتباطها بخلفيات وجذور ممتدة وغاية في التعقيد، بالإضافة إلى الاستخدام المتزايد للعنف، والانتهاك الشديد لحقوق الإنسان.
كانت هذه أسباب المراجعة القوية لمفهوم الأمن، وانصب اهتمام دارسي العلاقات الدولية على توسيع المفاهيم وتطوير النظريات حتى يتسنى لنا تفسير الواقع المتغير. وكان أحد المتطلبات هو أن تكون الدراسات في مجال العلوم الاجتماعية أكثر اقترابًا من احتياجات المواطنين -فيما يعرف بأنسنة العلوم الاجتماعية أو أنسنة قضايا الأمن.
ويرتكز مفهوم الأمن الإنساني بالأساس على صون الكرامة البشرية وكرامة الإنسان، وكذلك تلبية احتياجاته المعنوية بجانب احتياجاته المادية، والاقتراب الرئيسي هنا هو أن الأمن يمكن تحقيقه من خلال إتباع سياسات تنموية رشيدة، وأن التهديد العسكري ليس الخطر الوحيد، لكن يمكن أن يأخذ التهديد شكل الحرمان الاقتصادي، وانتقاص المساواة المقبولة في الحياة، وعدم وجود ضمانات كافية لحقوق الإنسان الأساسية. فتحقيق الأمن الإنساني يتطلب تحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة، وصون حقوق الإنسان وحرياته، والحكم الرشيد، والمساواة الاجتماعية، وسيادة القانون.
وعلى الرغم من أن الأفكار التي تشكل أساس أو دعامة مفهوم الأمن الإنساني تركز على الفرد كوحدة تحليل فإنها أيضًا تدخل في اعتبارها ما وراء الدولة وتتفق مع الاقترابات الحديثة في دراسات الأمن والسلم الدوليين التي تقوم على أن أمن وسلم أي دولة يعتمد على أمن وسلامة الدول الأخرى؛ فأمن الدولة رغم أهميته لا يعدو إلا آن يكون جزءًا من أجزاء البناء الأمني المتكامل. بمعنى أن أي نظام عالمي آمن ومستقر يبنى أمنيًا من أسفل (الأفراد) إلى أعلى (العالم). ومن ثم، فان أمن الدولة مجرد مساحة وسيطة.
إن هذا المفهوم الواسع والشامل والعميق للأمن أفرز متطلبات تتلائم والمساحة التي يتحرك عليها ،فهو يمتد من جهة الأمن العسكري خارج حدود تهديد الدول للدول والجيوش للجيوش ،بل أصبح الحديث عن التهديد الداخلي فيما يتصل بالصراعات الداخلية وخطر المجموعات الإرهابية التي تمثل مركب معقد بين (جماعات عابرة للحدود) و (حاضنات محلية) ،والأمر نفسه بالنسبة للتحديات والتهديدات الفكرية والثقافية والإجتماعية والإقتصادية ،فالأمن الإقتصادي لدولة ما أو مجموعة ما لم يعد في حدودها الضيقة ،بل تنزاح عليه وتتشابك معه عوامل خارجية كثيرة خارجة عن دائرة السيطرة بالنسبة للجعة المعنية بالمشكل الإقتصادي.وإذا كان الأمر ممكنا فيما يتصل بالتحديات السابقة ،فإن الأمن السياسي بمفهومه الشامل هو الجزء الأكثر تعقيدا اليوم في ظل مركب الأمن الكبير.
هذه الشمولية والإتساع لدائرة الأمن مازال يقابلها منهج المقاربات التجزيئية في إطار بناء الحلول والمعالجات ،فالعاملون على تأمين الأمن (في معظم الحالات) يقاربون حلولهم عبر زاوية ضيقة للأمن ،إذ ينصب إهتمامهم مثلا في مسألة الخطر العكسري على قضية المواجهة والمدافعة وصد العدو العسكري دون الخوض في أعماق نفس الصراع وخلفياته السياسية والإقتصادية والإجتماعية المتشابكة والمتداخلة ،والتي تتطلب مقاربة شمولية متصلة ومتواصلة تنظر إلى كل مدخلات الأزمة بعين متساوية المسافة والنظر والتدقيق ،وترى ما تحت السطح الظاهر للأسباب الملحوظة في اللحظة الحاضرة ،وتقدم الحلول الشاملة والمتكاملة بشكل تتوازى فيه كل أنساق العمل والتأثير وتلتقي في نقطة الهدف الأعلى ،وهي تحيق الأمن الكامل الشامل.
لا شك في أن تقسيم الواجبات والتخصصات ينفع كثير في مسألة التركيز والإحاطة بكل جانب من جوانب التهديد الأمني بشكل يعطيه فرصة كبيرة من الإعتناء والملاحظة ،إلا أن هذا التركيز لا ينبغي أن يصير إلى التجزئة وبالتالي تتدافع الجهات مع بعضها تحت عنوان «أنا أدير الجانب الأهم من الأمن» ،بل لا بد أن يكون الأمر أعمق من حالة التنسيق ،والتي مفقودة في الكثير من صور التعاطي مع التحديات الأمنية ،لا بد أن يكون هناك عملية صهر وإعادة مزج لمخرجات كل مقاربة أمنية لجزء من التحدي في إطار تصور متكامل يلاحظ كل أسباب ومدخلات التهديد ،ويوزع المسؤوليات والحلول بنفس مساحة التحديات.
إن هذه المقالة تركز على قضية أساس تراهن على أنه لا حديث عن أمن كامل وشامل بدونها ،هذه القضية تتمثل في ضرورة مغادرة المقاربات التجزيئية والتحول إلى منهج المقاربات التكاملية التي تعني حالة أعمق من مفهوم التنسيق بين الجهات والأجهزة العاملة على ضبط الأمن.
*خبيـر فـي شـؤون الأمـن والإستراتيجيات