26 عاماً من اللصوصية

عبر هذا الشعار (أنهوا 26 عاماً من السرقة والقرارات الخاطئة) تكون التظاهرات الأخيرة في السليمانية وعدد من مدن إقليم كوردستان؛ قد حددت بدقة ووعي هدفها الأساس. لم يكن أمر انطلاق هذه الاحتجاجات من قلعة الأحرار والثوار (السليمانية) غريباً أو جديداً على إرثها المشرق في هذا المجال، فلطالما كانت هذه المدينة ملاذاً للأفكار التي تدعو للحرية والكرامة والحداثة والتعددية. لقد شاهدنا كيف أزاح القرار الأخير لحكومة أربيل في إجراء الاستفتاء على استقلال الإقليم وإقامة الدولة المستقلة؛ كل ما يتستر على هشاشة التجربة في الإقليم وعيوبها البنيوية الصارخة، والتي حرصت مؤسسات السلطة التعبوية وأبواقها على إخفائها، عبر وابل من الشعارات القومجية وتأجيج روح الكراهة والعداء للآخر المختلف وشيطنته. لقد حذّرنا مراراً وتكراراً من مغبّة الإمعان في السير على طريق إعادة إنتاج نظم الاستبداد والاستئثار بالسلطة والثروة، ذلك النهج المسكون بمشهد ارتفاع طبقات المولات والفلل والقصور، وانخفاض منسوب الحريات وتكميم الأفواه وما رافقها من سحق لحقوق الناس في الحصول على فرص عمل وحياة لائقة، تتناسب وما قدّم في سبيل ذلك من تضحيات. إن حنق وغضب المحتجين يستند الى كل ما جرى على يد هذه الطبقة السياسية التي تقاسمت الحكم في كوردستان من (العام 1991 الى 2017) حيث تميزت بما حدده ذلك الشعار بوضوح أي (اللصوصية والقرارات الخاطئة) فلا مؤامرات محلية ولا إقليمية ولا دولية ولا شيطانية ولا هم يحزنون..
إن صعود المتخلفين واللصوص الى سنام السلطات لا في أربيل والإقليم وحسب، بل في العاصمة الاتحادية بغداد، حيث تقذفنا فزعاتهم وسياساتهم البعيدة عن الحكمة والمسؤولية من حرب الى حرب أخرى ومن محرقة الى أخرى أشد فتكاً، يؤكد وجود منظومة راسخة من الآليات والسياقات والموروثات خلف كل هذا النحس العضال الذي لم يفرق بين سكان هذا الوطن القديم على أساس الرطانة أو الهلوسات والأزياء. لمنظومة الخراب هذه امتدادات تاريخية عميقة، ترسخت بقوة زمن النظام المباد، وتم إعادة ترميمها بيد من تلقف مسؤولية إنجاز ما يعرف بـ (العدالة الانتقالية) والتي تحولت بهمتهم الى سلسلة متواصلة من الكوابيس الانتقالية، لن تكون داعش آخر عناقيدها المرة.
مثل هذا الوعي والنشاط الاحتجاجي يؤشر لانطلاق بداية جديدة وحاجات أخرى أكثر تخففاً من ركام الماضي وفضلات “الحرب الباردة” ويافطاتها العقائدية والآيديولوجية، ويعكس انعطافاً صوب الواقعية والبراغماتية في التعاطي مع تحديات ومعطيات عصر، دعائمة العقل والمعلومة والتشريعات المناصرة لحقوق الإنسان وحرياته، ويليق بمدينة السليمانية وتطلعات شبيبتها المشروعة، أن تقود مثل هذه الميول والانبثاقات الحضارية التي غيبت بفعل الهيمنة الطويلة لقوافل القتلة واللصوص. لقد تكبّد سكان الإقليم (ما عدا القوارض) خسائر كبيرة نتيجة القرارات الخاطئة والتي لن تكون خاتمتها (الاستفتاء) إن لم تحصّن السلطة والثروة من اللصوص والمعطوبين فكرياً وقيمياً، وهي مهمة لن تكون سهلة لا سيما وأن هذه الطبقة قد مدت مجسات فسادها الى قطاعات واسعة من المنتسبين لنادي ولائمها الممولة من أسلاب الموازنات الحكومية. وهم لن يتنازلوا عن كل هذه المناصب والامتيازات والغنائم، إلا عبر نشاط منظم ومثابر تتصدى له ملاكات وقيادات تمتلك النفس الطويل والوعي العميق وروح الإيثار والتضحية لخدمة الشأن العام..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة