متابعة – الصباح الجديد:
يعد سكان وادي الرافدين من الاوائل الذين استعملوا الادوات الموسيقية الايقاعية المتنوعة لضبط نبض حركة الاشياء فيما حولهم، وعدوا الأنغام والموسيقية، ما هي الا صدى وانعكاس ارضي لهارموني وانسجام حركة الكون المعقدة، بما يحويه من كواكب ونجوم واقمار.
ففي العشرات من الرسوم، والمنحوتات، ونقوش الاختام الاسطوانية، وأواني النذور التي تعود الى الفترة السومرية، والفترات التي تلتها، يظهر فيها رجال الى جانب العساكر المدججين بالسلاح، وهم يحملون الآلات الموسيقية، ويعزفون عليها لشحذ الهمم، ورفع معنويات المحاربين، وبث روح الشجاعة، وبعض هذه الرسوم تظهر رعاة وهم يعزفون على ناي، او مزمار، بينما الماشية ترعى منتشية باللحن في المرج.
و كثير من هذه الرسوم والنقوش تظهر فيها نساء في حركات راقصة، وايضا نساء ورجال يعزفون على آلات موسيقية، كالطبل، والصنوج، والمزامير، وآلات القيثارة، والربابة، والعود، ( وكلها تستعمل على حالها الذي ظهرت به في الرسوم والى يومنا هذا.
فالآلة الموسيقية عند قدماء العراقيين لعلاقتها بنبض وايقاع الكون والفلك، كانت مقدسة ومعظمة، لا تدخل المعبد، الا بعد ان تطهر بتلاوة التعاويذ الطويلة الخاصة بهذه الآلة، وكانت ترافق عملية صنع الالة الموسيقية التي يعتقد ان الآلهة صنعتها لأول مرة، سلسلة من الطقوس الدينية، تؤدى بصرامة، حتى تكون الآلة جديرة بأن تصبح من مقتنيات المعبد، وكان يخصص للعزف على هذه الآلات في الاحتفالات الدينية، كهنة من الطبقة العليا .
ان طريقة الرقص الخاصة بالنساء الريفيات المنتشرة في جنوب عراق اليوم، والتي منها رقصة ( الهجع ) المنسوب طور اغنيتها الشهيرة للفنانة زهور حسين، تحتفظ بالكثير من بقايا عناصر واصول رقص السومريات .
نجد هنا الراقصة تحل شعرها، وتطوح به في الهواء من حولها يمينا ويسارا، بصورة عنيفة على ايقاع الطبلة الجلدية ( الدربكة )، ثم تثني ركبتيها لتقترب من الأرض، وتبرك لتسدل عليه شعرها، وتمسح الارض به وفيما حولها برفق، ثم تنهض وهي تركل الارض بقدميها بقوة، وتعيد هذه الحركة اكثر من مرة، كأنما تريد من هذه الركلة المتكررة بإلحاح، ايقاظ الأرض النائمة من سباتها الذي استمر طوال فصل الشتاء .
فهذه الحركات كما هو واضح لا تخرج عن بعدها الاحتفالي الطقسي في عملية حث الأرض، حتى تفك اسر تموز من العالم السفلي، ليعود الى الأرض، وينبت الزرع الأخضر من جديد .
ان مثال الرقصة هذه في العراق، تنسحب على جميع الرقصات الشعبية الاخرى المتداولة حتى هذا اليوم في العراق، كرقصة الجوبي بأنواعها، (يؤديها الجنسان بنحو مختلط كل من الاكراد، والارمن، والآثوريين، واليزيدين، والتركمان، والكلدان، وغيرهم، ويوديها العرب بالرجال فقط)، ورقصة (الساس) العربية وغيرها.
ترتبط جميع تلك الرقصات بأصولها الدينية، والمثولوجيات الرافدينية القديمة، وترمز بالأساس للحركة، والحياة، والخلق، والخصب، وطرد الارواح الشريرة، تذكرنا بأحداث قصة الخليقة، وانتصار ألإله مردوخ على العمى والظلام، والآلهة (تيامت).
جميع الرقصات الشعبية الرافدينية ما هي الا محاكاة رمزية للحركة الاولى التي كانت في بداية خلق الكون، والدبكة ذات الحركة الدائرية بأنواعها، شديدة الارتباط بالمثولوجيات الدينية التي تقوم على اساس الدوران حول المكان المقدس، لاستدرار البركة، وهذه الحركة نلاحظها اليوم عند المسلمين وهم يؤدون مراسم الحج السنوي في مكة المكرمة، أو عند زيارتهم لأضرحة الاولياء والاماكن الدينية، وهي محاكاة لحركة الكواكب والنجوم، وقد تكون تعني التخلص من السحر، ورسم منطقة دائرية مقدسة تعطي الحماية، قد تكون رمزا لحدود ارض الله الخالية من الشيطان والشر، او نقلا لدائرة الفلك السماوية على الارض .
فالدبكة التي يؤديها البدو الرحل تعتمد على هز الاكتاف قليلا، والتمايل بخيلاء عند تحريك الرجلين، وعدم رفعها الا قليلا عن الأرض، والسرحان في الرقص على مساحة واسعة من الخلاء، ويحرك الرجلين الى الامام والى الخلف كأنه يسرح ويطوف مع الماشية، أي أنه تعبير عن عادة التنقل الرعوية .
اما الدبكة التي يؤديها الجبليون، او الفلاحون، فتختلف في حركاتها عن رقصة البدوي، بالقفز المنتظم والعنيف على الأرض، كأنه يربت عليها لاستدرار عطفها في استنبات البذور ونمو الزرع، وضرب الارض بالأقدام بقوة، يهدف الى ابعاد الارواح الشريرة منها.
ان جميع هذه التفسيرات لحركات رقصة الدبكة، والاحتفالات الشعبية بأنواعها، والتفسيرات الكثيرة الاخرى حولها، لا تخرج من نطاق اعتبار أصلها المطلق الاول مقدس، وطقس حي مستمر من زمن سحيق.