مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة
تجدد الخلافات بين قيادات حزب العدالة والتنمية (الحزب الحاكم) في المغرب، من شأنه أن يؤثر سلبًا على موقع الحزب في المشهد السياسي بالبلاد، حيث تجسدت الخلافات في انقسام الحزب داخليًّا إلى تيارين رئيسيين: أحدهما مؤيد لـ»عبدالإله بنكيران» ويرغب في تغيير القوانين الداخلية للحزب من أجل التمديد لولاية ثالثة لبنكيران، والآخر رافض له ويقف في صف تجديد الدماء وانتخاب شخصية جديدة تتولى منصب الأمين العام للحزب خلفًا لبنكيران.
وقد انعكست هذه الخلافات على النتائج الأخيرة للانتخابات الجزئية التي خاضها الحزب وَفَقَد مقاعد هامة لصالح أحزاب سياسية أخرى، وكل ذلك يدفع في اتجاه ترجيح تصاعد الأزمة الداخلية بحزب العدالة والتنمية، الأمر الذي سينعكس حتمًا على أداء الحكومة برئاسة «سعد الدين العثماني»، وفي الوقت نفسه يضع مستقبل الحزب على المحك بسبب انشغال قياداته بمسألة تولي المناصب دون الإجماع على شخص بعينه.
ويعاني حزب العدالة والتنمية حالة من الانقسام والصراع الداخلي، ومن المؤشرات الرئيسة لذلك ما يلي:
1- الخلاف حول تعديل المادة 16 من النظام الأساسي للحزب بما يسمح للأمين العام عبدالإله بنكيران بالترشح لولاية ثالثة، ومن المُرجَّح أن تؤثر هذه الخلافات الداخلية الحادة على أداء الحكومة التي يرأسها «سعدالدين العثماني»، والذي تواجه الكثير من التحديات ومن ضمنها ملفات ضاغطة كان «بنكيران» ذاته قد فشل في حلها، ومنها: التنمية، والتشغيل، والمفاوضات الاجتماعية، وهي تركة ثقيلة أورثها رئيس الحكومة السابق لخلفه المنتمي للحزب نفسه.
وقد أُثيرت هذه الخلافات في الوقت الذي كان فيه أعضاء الحزب يُمنّون النفس بأن يفتح الحزبُ المجال أمام النقاش السياسي الجدي الذي يُحدد تصورات «العدالة والتنمية» للمرحلة المقبلة، حيث تحولت العلاقة بينهم إلى صراع بين مؤيد لـ»الزعيم» ورافض لديكتاتورية الأمين العام التي ستُنتج «حزب أشخاص» لا «حزب مؤسسات».
2- تهديدات قياديين من الصف الأول بالاستقالة في حال تعديل قوانين الحزب، والاتهامات التي أصبحت تُكال للأمين العام؛ وجدت صداها في اجتماعات الأمانة العامة للحزب التي أصبحت تنظيمية صرفة، ولا تنعقد إلا لمنح التزكيات بمناسبة الانتخابات الجزئية، في وقت غاب عنه النقاش السياسي الذي يفترض أن يؤطر المرحلة التي يمر منها الحزب، ويرون أنه بدلًا من أن ينشغلوا بمناقشة تصورات سياسية مبنية على المعطيات والمستجدات التي يعرفها المغرب في سياقيه الوطني والدولي، وجدوا أنفسهم أمام نقاش تنظيمي يكاد يقسم الحزب إلى طائفتين أو أكثر.
3- تحول الخلافات الحالية داخل الحزب إلى تصفية حسابات سياسية وشخصية قديمة بين بعض قيادات الحزب، وعلى رأسهم «عبدالإله بنكيران» الذي يريد -وفقًا لرأي منتقديه- اختطاف حزب العدالة والتنمية بأي ثمن، من خلال تعديل المادة التي تُخوِّل له التقدم لولاية ثالثة، وسد الطريق أمام الوزراء في الأمانة العامة استنادًا إلى إحاطة نفسه بجماعة من المؤيدين له بغض النظر عن المصلحة العامة للحزب ومستقبله السياسي في البلاد.
4- وجود تيارين متنافسين داخل الحزب، يمثل التيار الأول شباب الحزب الذين عبّروا عن شعورهم بوجود خيانة من قبل «سعد الدين العثماني» بعد تحالفه مع أحزاب كان «بنكيران» -باعتباره الأمين العام للحزب- رفضها من قبل، وظهر ذلك الرفض في توجه شباب الحزب للتعبير عن استيائهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك)، وادعى بعضهم أنهم سيقدمون استقالاتهم في ظل مخاوف من حدوث انشقاق داخل الحزب، والنقطة الأهم أنهم ينظرون إليه بصورة قائد وطني صاحب رؤية وكاريزما وحكمة تؤهله للعودة إلى صدارة المشهد السياسي مرة أخرى.
وهو ما شجّع «بنكيران» على العودة مرة أخرى للمشهد السياسي في ظل مطالبات حزبية ومجتمعية له بالقيام بدور للحفاظ على قوة الحزب وتمسكه بالنهج الإصلاحي من أجل خدمة المواطنين.
كما يرى مؤيدو تعديل المادة 16 أن إضافة ولاية جديدة لـ»بنكيران» تعد ضرروة تمليها قدرة الشخص على تحمل المسئولية وثقة الآخرين به، كما عليه الحال بـ»أنجيلا ميركل» التي تستمر في منصبها على رأس الاتحاد الديمقراطي المسيحي منذ عام 2000، كما قد يكون هناك تأثر بتجربة «إسلامي» آخر، هو «رجب طيب أردوغان» الذي عدل دستور تركيا حتى يعزز صلاحياته الرئاسية ويستمر في تدبيره للشأن العام كما فعل خلال ثلاث ولايات من رئاسته للحكومة.
ومن ناحيةٍ أخرى، يوجد فريق آخر من أعضاء الحزب ذهب لتأييد قرارات رئيس الحكومة الحالية «سعد الدين العثماني» وهو ما أدى إلى وجود حالة من الغموض والارتباك داخل الحزب بشأن التعامل مع حالة الانقسام في الآراء داخل الحزب، واتجاه المؤيدين لـ»بنكيران» لاتخاذ مواقف تعبر عن رغبتهم في الحفاظ على ما حققه «بنكيران» من مكاسب سياسية للحزب.
ويرفض ذلك الفريق التمديد لـ»بنكيران»، لأنهم يرون أن الاتجاه نحو الولاية الثالثة سيقضي على النموذج الديمقراطي الذي كان حزب «العدالة والتنمية» يروجه في مواجهة الأحزاب الأخرى، إذ كان يقدم نفسه باعتباره الأكثر انضباطًا مع القوانين الداخلية وليس الأشخاص.
موازين القوى:
إن أزمة الحزب في الوقت الراهن ليست فقط نتيجة اختلافٍ في الرؤى بين قياداته، وإنما هي انعكاس لصراع موازين قوى داخل الساحة السياسية المغربية.
وقد أكدت التجربة أن أعداء الأحزاب عادة ما يقومون باللعب على التناقضات الداخلية للأحزاب السياسية القوية، ويحاولون استقطاب الأجنحة التي غالبًا ما تُرجِّح مصالحها داخل هذه الأحزاب، للعمل على إنهاكها من الداخل، وما يحدث اليوم داخل حزب العدالة والتنمية إنما هو تكرار بطرق أخرى لما حدث في أحزاب كبيرة انتهت إلى فشلها سياسيًّا.
فالتجارب الحزبية السابقة، أي أحزاب «الاستقلال» و»الاتحاد الاشتراكي»، كانت بمثابة تيارات اجتماعية أكثر من كونها أحزابًا عقائدية، لأنهم كانوا يدافعون عن قيم كبيرة مشتركة، كان يختزلها مطلب «الاستقلال» بالنسبة لـ»حزب الاستقلال»، والحاجة إلى الديمقراطية بالنسبة لحزب «الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية»، وأدى إضعاف هذين الحزبين إلى عدم بلوغها أهدافها التي كانت تعمل على تحقيقها.
عطل مؤسساتي:
وقد انعكست الخلافات والانقسامات داخل حزب العدالة والتنمية في تعطيل عمل مؤسسات الحزب الداخلية، خصوصًا الهيئات التنفيذية والتقريرية الكبرى التي لم تنعقد منذ أن وقع الشرخ بين قيادات الحزب «بنكيران» و»سعدالدين العثماني» وأنصار كلٍّ منهما، وذلك على الرغم من ارتفاع عدة أصوات داخل الحزب تطالب بعقدها.
وهو ما حَوَّل النقاش من داخل المؤسسات الحزبية إلى فضاء التواصل الاجتماعي (فيسبوك – تويتر) الذي تحول إلى ساحة للتراشق بواسطة «التدوينات» بين قيادات الحزب فيما بينهم من جهة وصفوف الأتباع والمعارضين من جهة ثانية.
كما انعكست هذه الخلافات على نتائج الحزب في الانتخابات الجزئية لصالح حزب الأصالة والمعاصرة، غير أن مراقبين لا يُعوِّلون على نتائج هذه الانتخابات كمؤشر حقيقي على تراجع الحزب من عدمه في ظل تراجع أدوار الأحزاب السياسية الأخرى في المشهد السياسي بالبلاد.
إن ما يشهده حزب العدالة والتنمية اليوم من خلافات وانقسامات داخلية، يثير تساؤلات حول مآل مشروعه الإصلاحي الذي كان يدعو إلى تطبيقه وتحقيق أهدافه، فمستقبل حزب «العدالة والتنمية» اليوم سيحدده موقع زعيمه «بنكيران» وموقفه من القضايا الخلافية المعلقـة داخل الحزب.