التظاهرات والخصخصة المزعومة

قد يبدو أمر التظاهرات التي انطلقت في عدد من المحافظات الجنوبية ضد ما اطلقوا عليه بـ “خصخصة” الكهرباء دليلاً على حدوث تحول في مزاج ووعي هذه المجتمعات بعد سبات طويل. لكن عند التمعن قليلاً بطبيعة مثل هذه النشاطات الحضارية (التظاهرات) نجدها لم تشذ عن غالبية التظاهرات والاحتجاجات التي تعرفنا عليها بعد زوال النظام المباد، حيث تفتقد لاهم المقومات المعروفة عن هذه النشاطات الا وهو الوعي والفهم العميق في التعاطي مع الاهداف والشعارات المحركة لها. فعلى سبيل المثال شعار التظاهرات الأخيرة (لا لخصخصة الكهرباء) فلا يمكن معرفة نوع “الخصخصة” التي يتظاهرون ضدها؛ لان ما يجري من تجارب لتنظيم أمر توزيع الكهرباء (الوطنية) وجباية فواتيرها بشكل يقلص من العشوائية والهدر، لا علاقة له بهذا المفهوم الاقتصادي (الخصخصة)، والتي تحتاج الى تحولات بنيوية واسعة وعميقة كي تتجرأ للتقرب من مضاربنا المنكوبة بالفزعات الخاوية وموازنات الدولة الخيرية “التشغيلية”.
ما يحدث حالياً مع ملف الكهرباء من مواقف واجتهادات حكومية وما يقابلها من ردود فعل شعبية، لا يشذ عما يجري مع باقي الملفات التي ستظل تتنتظر الفرج من دون جدوى على المدى المنظور، فشبكات الفساد وضحالة الوعي وبؤس التنظيم السياسي والمهني والنقابي والمزاودات والتصفيات بين الكتل المتنفذة؛ يلقي بظلاله الثقيلة عليها جميعاً، وهذا ما اشرنا اليه مراراً، حيث لا تجيد هذه الكتل غير تقنية اعاقة بعضها للبعض الآخر، ولو من خلال امتهان أرقى أشكال الكفاح السلمي (التظاهرات) والتي تعرف عليها اسلافنا مبكراً مقارنة بباقي شعوب المنطقة، لكن تواصلنا مع ذلك الارث انقطع بشكل كامل تقريباً بعد الردة الحضارية التي عصفت بكل ما له صله بتطلعاتنا المشروعة للحاق بركب الامم التي ارتقت لسن التكليف الحضاري.
لست ضد التظاهرات ولا أثق بمنهج الترقيع الذي تعتمده غالبية القرارات والحلول الحكومية، في التصدي لمثل هذه الملفات الشائكة، لا سيما وان مصداقية هذه المؤسسات والملاكات والادارات الحكومية قد تصدعت كثيراً زمن النظام المباد وبعده، لكنني لا يمكن أن اقف متفرجاً أمام اصرار الديماغوجيون على دغدغة مشاعر الغضب والاحباط لدى شرائح واسعة من سكان هذه المدن، نتيجة عقود من الاجحاف والاهمال، وخداعها عبر الادعاءات الزائفة بالتعاطف معهم في حربهم ضد “الخصخصة” وغير ذلك من الدقلات التي تزيدهم بعداً عن حقوقهم العادلة. ان الفقراء لا يحتاجون الى مثل هذه الصدقات، بل الى ادارة ووعي جديد لامكانات وثروات ومواهب سكانه المتعددة، والى الخلاص من آثار الدولة الريعية وقيمها الشرهة وقوافل قوارضها ولصوصها، وهذا لن ياتي عبر العبث بالممتلكات والثروات العامة والاستخفاف بمؤسسات الدولة، كما هو الحال بالامس واليوم، لا سيما وان رزقنا الريعي في طريقه الى الجفاف والانخفاض المستمر باسعاره، كذلك الكثير من الموارد الطبيعية ومنها الموارد المائية وغيرها، لهذا كله يتوضح لنا حجم مخاطر مثل هذه التوجهات الديماغوجية والبعيدة عن المسؤولية في التعاطي مع هذه التحديات الملحة. علينا ان نترك تكتيك النعامة في مواجهة الكارثة المحدقة، وان نساعد بنات وابناء شعبنا على تفهم واقعنا المزري من دون تزويق، والى الحاجة لاتخاذ قرارات شجاعة ومؤلمة لانتشال مشحوفنا المشترك مما ينتظره من سيناريوهات لن تقل مرارة عما تجرعناه..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة