حسن خضر
ينشر بالاتفاق مع صحيفة الأيام الفلسطينية
تكدّست بين أيدي السعوديين في العام 1979 ثروة تفوق الخيال. وهذا يتضح بالمقارنة بين موازنة الحكومة في سنوات 1969ـ 1974، البالغة 9.2 مليار دولار، وموازنة بلغت 142 مليار دولار في السنوات الخمس التالية. هذا الصعود المالي المفاجئ غير مسبوق في التاريخ، وقد نجم لا عن زراعة، وصناعة، أو فتوحات استعمارية، بل عن بيع مادة خام في جوف الصحراء. الصحيح أن دماء الجنود المصريين والسوريين في حرب أكتوبر 1973 كانت الفاعل الرئيس، ولكن أحداً لا يتوقف هذه الأيام أمام حقيقة كهذه.
والمهم، أن لحظة انخراط السعوديين، إلى جانب الأميركيين، في آخر معارك الحرب الباردة، في أفغانستان، تزامنت مع الثروة الهائلة، التي لم يكن لا في الواقع، ولا حتى في الخيال، ما يكفي من المشاريع لإنفاقها في فترة زمنية قصيرة. ومع ذلك، لم يفشل صنّاع السياسة الأميركية والغربية في ابتكار وسائل جديدة للاستفادة من ثروة كهذه. فعلاوة على المقاولات، والأسواق، والتسليح، والاستثمار في مشاريع البنية التحتية، والتلاعب في أسعار النفط، وُضع تمويل العمليات السرية، في الحرب الباردة، على جدول الأعمال.
كانت في رصيد السعوديين، قبل الوصول إلى اللحظة الأفغانية في العام 1979، سلسلة حملات، في عالم الظلال، لم تتضح معالمها بصورة كافية بعد. فهناك شذرات كثيرة عن علاقتهم بالإخوان المسلمين في عقدي الخمسينيات والستينيات، ولكن الوثائق المطلوبة لكتابة تاريخ شامل لم تتوفر حتى الآن، فليست لديهم قوانين للإفراج عن الوثائق بعد مرور مدّة زمنية معيّنة. ولن ينتظر عاقل من الإخوان أن يكتبوا بنزاهة تاريخ علاقتهم بالسعوديين.
والمفارقة أن الكثير مما كان طي الكتمان عن الحرب في اليمن ضد عبد الناصر، ما بين 1962ـ 1967، توفّر في السنوات الأخيرة، خاصة وأن بعض المرتزقة الغربيين، الذين شاركوا في الحرب، ودرّبوا الملكيين اليمنيين، ونقلوا الأسلحة، كتبوا مذكرات في هذا الشأن، واتضح فيها، أيضاً، ما كان للإسرائيليين من دور. وبقدر ما يتعلّق الأمر ببن لادن، الذي سيرد الكثير عنه في معالجات لاحقة، فإن إمبراطورية المقاولات التي بناها أبوه بدأت فعلياً بأنشاء تحصينات وبنية تحتية في المناطق الحدودية المحاذية لليمن في تلك السنوات.
ومع ذلك، كان الانخراط في العام 1976، في ما عُرف لاحقاً باسم «نادي السفاري»، الذي ضمهم إلى جانب المغرب، ومصر، وإيران، وفرنسا (بمبادرة من الأخيرة) نقلة في سياق إخراج النشاط من إطاره الإقليمي الضيّق إلى نطاق أوسع يشمل القارّة الأفريقية، ويستهدف ملاحقة ومكافحة النفوذ الشيوعي هناك. وفي السياق الزمني نفسه، استفاد الأميركيون من ثروة السعوديين المفاجئة لتمويل أنشطة في أميركا اللاتينية بعد القيود التي فرضها الكونغرس على العمليات الخاصة لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية.
بمعنى آخر، لم يصل السعوديون إلى اللحظة الأفغانية بلا خبرة سابقة، وإن تكن قد اقتصرت في الغالب على التمويل. ولكن الاكتفاء بقراءة اللحظة المعنية على خلفية الثروة المفاجئة لا يفي بالغرض. فالواقع، في كل الأحوال، أكثر تعقيداً، ولا يفسّره عنصر واحد حتى وإن كان حاسماً في حينه.
كنّا قد أشرنا في معالجات سبقت إلى تزامن لحظة السعوديين الأفغانية مع الثورة الإيرانية، ومحاولة جهيمان الاستيلاء على الحرم، وما لحدثين بهذا الحجم من نفوذ على خيارات السياستين الداخلية والخارجية. وثمة ما يستدعي، الآن، وضع هذا كله في إطار أوسع يتمثل في حقيقة أنهم لم يصلوا آخر أعوام السبعينيات بثروة هائلة، ومخاوف لا تقل عنها هولاً وحسب، بل ووصلوا بإحساس الفائز في صراع البقاء، أيضاً.
ففي الفترة ما بين 1952ـ 1967 جابهوا تحدياً وجودياً مزدوجاً تجلى في القومية العربية الراديكالية بقناعيها الناصري، والبعثي، وفي المد السوفياتي كأيديولوجيا، وتنظيمات سرية وعلنية، في العالم العربي والشرق الأوسط عموماً، وما أثاره اليساريون من صخب حول صراع الطبقات، والاشتراكية، والرجعية والتقدم. وقد كان القاسم المشترك بين القوميين الراديكاليين واليساريين في ذلك الوقت مناصبة ما أسموه بالأنظمة الرجعية في العالم العربي، وأغلبها يتكوّن من ملكيات، العداء.
وزاد من تفاقم الوضع وجود تلك الأنظمة، في عالم ينقسم إلى معسكرين، ويعاني من الاستقطاب الحاد، في معسكر الغرب. ومَنْ عاش تلك الفترة، وشهد انقلابات العسكريين، يعرف أن الأنظمة المعنية كانت في وضع لا تحسد عليه، خاصة وأن المناخ العام، والثقافة السائدة، في الحواضر العربية، كانا إلى جانب الراديكاليين.
وبالنسبة للسعوديين كانت التحدي وجودياً على أكثر من صعيد، فدولتهم وُلدت من تحالف فريد بين الدين والسياسة، ومنه استمدت مصدر شرعيتها. ولم يكن لديها في معرض مجابهة تحديات خارجية وداخلية حقيقية ومتوّهمة من سلاح أشد مضاء من الأيديولوجيا الدينية، التي تحوّلت إلى مكوّن رئيس في السياستين الداخلية والخارجية. وربما في هذا كله، إلى جانب قناعات دينية راسخة، بالمعنى الشخصي، ما يفسّر كراهية تكاد تكون عضوية تماماً للشيوعية، وتحفظات جدية وحقيقية إزاء القومية كأيديولوجيا اجتماعية وسياسية.
ولكن ماركسية العالم العربي، كما قوميته، دخلا طور الغروب مع هزيمة عبد الناصر في العام 1967 وغرق حركة الفدائيين الفلسطينيين، التي بدت لوهلة أولى وكأنها طوق النجاة، في وحل أكثر من حرب أهلية. في العام 1979، كانت الناصرية في حكم الماضي، وكان البعث العراقي والسوري على طريق إنشاء أنظمة استبدادية، وسلالات حاكمة. وفي ساعة الغروب تلك، ومن رحمها، وُلدت اللحظة الأفغانية.
1979 مرّة خامسة..!
التعليقات مغلقة