الدكتاتور فنّاناً

كتاب “الصباح الجديد” عن تأريخ لم يطوَ(الدكتاتور فنانا) لرياض رمزي
هل يمكنك أن تقرأ طوال خمسين سنة، وتعبّ مئات الروايات والمخطوطات ودواوين الشعر وكتب علم الاجتماع والدراسات المستقبلية، وأن تصبر على إكمال قراءة مجلد موبي ديك العقد والمتشابك، وتفكك خطب صدام حسين ومؤلفات اسحاق دويتشر وبرزان التكريتي والمركيز دي ساد ونيتشة وأمهات كتب التراث، بثلاث لغات حية، العربية والإنكيزية والروسية ثم تؤلف كتابا واحدا لا تتجاوز صفحاته على المائة والأربعين صفحة عن شخصية صدام حسين هي خلاصة كل ما قرأتَ وتأملتَ، إذ يتدحرج الفنان الدكتاتور، أو الدكتاتور الذي تفنن في تدمير كل من ألقاه حظه العاثر في طريقه، وتجبر على الله ومخلوقاته، وانتهى مثل هذه الأيام، قبل أربعة عشر عاما، الى خارج المعادلة بعد أن تسببت حماقاته في كل ما حل بالعراق من كوارث.
يقول الكاتب رياض رمزي في مقدمة كتابه (الدكتاتور فنانا)
بالرغم من أن العراقيين، على عكس الشعوب الأخرى، لا يعدون ظاهرة العنف حالة طارئة في تأريخهم، فأنهم مع اطراد الكوارث المفجعة كثيراً ما يتساءلون : أي لعنة خيمت عليهم ؟ وأي جريمة اقترفوها كي تسير الحياة السياسية لديهم يدا بيد مع القتل؟ما هو سبب هذه التراجيديا التي بدأت تقود الى اعتقاد سطحي لدى البعض يتمثل في تسمية مبسطة يطلق عليها عادة “سوء الطالع ” هل هو التأريخ الطويل للقتل السياسي أم أرواح شريرة سكنت هذه الأرض؟
الحلقة 17
كيف تنكل بأقرب الناس إليك؟ سؤال لا يجيب عنه إلا رواة الدراما.. أبرياء يطلبون الغفران ومذنبون ينفذون أحكام “العدالة”

الخاتمة (لعبة الظل)
بدأ الامر ببساطة: يوم 18/7/1968 عندما اتصلت مجموعة من الضباط تمتلك مفاتيح الحرس الجمهوري برئيس الدولة وأخبرته ان لم يعد رئيسا فخرج. انتهى الامر ببساطة: يوم 9/4/2003 سلم الحرس الجمهوري البلاد الى قوة أخرى محتله حتى من دون القول للرئيس ان وجوده لم يعد ضروريا. بين هاتين البساطتين حدث العجب اذ خرج الجميع مشوشين ابعد ما يكون عن البساطة ،فهم اما شاركوا في ما حدث او شاهدوا ما حدث او هدد حياتهم الوباء الذي حدث حالات مفرطة لم تكن نتاج هواية بل استجابة لإرادة صارمة: اصعب الخيانات اذلالا، جرائم جاءت نتاج خيال اشد الغرائز بهيمية كان يتناقلها الناس ماضيا، بوصفها لبوسا عارضا يصيب بعضهم مرة في كل قرن من الزمان، وابرز انواع البطولات جسارة الاتي: أب يسلم ولده للاعدام كي يحصل على مكافأة من القائد، سادي يجبر ضحاياه على شرب البنزين ويطلق النار عليهم كي يتمتع بموت الضحايا مرتين: قتلا واحتراقا ثم يذيب اجسادهم بحامض النتريك شخص يقرر الاختباء في حفرة تحت الارض عشرين عاما كي لايشارك في حرب يشك في صدق دوافعها.
كان هذا يجري في جو اشبه بجو الثكنات العسكرية التي تمتلئ جدرانها بصوره وانصاب تماثليه لكن وجوده الفعلي يبقى لغزا محيرا أشبه بلغز موقع وجود اللوياثان في رواية هرمن ملفل الشهيرة “موبي ديك”. اين يوجد الحوت؟ لا احد بامكانه الاجابة فالبحر العظيم وهو مزاره اليومي يدل على سعة عالمه عندما ترك هذا الحوت بحره الشاسع وذهب الى اليابسة لم يعد لموقع وجوده من معنى بعدما تحول الى هارب يصارع نوبات البرد. ينظر من شباك مخبأه وراء اسوار الطين منتظرا أعداءه، حالما فقد بحره ولم يعد بمأمن في البر تحول هذا الحوت عقب هربه الى طائر مالك الحزين، ضجر ومتوحد لم يجد مأوى يؤويه سوى بركة لا تسمع فيها حتى اصوات الضفادع، فاضطر الى رمي عناء وحدته على رجل واحدة لم يعد بمقدورها تحمل ثقل هزيمته فأصابها التعب، انه لا يدرك ان وجود عندما انهزم من البر لم يبق مطلوبا فما عملت ماكينة الدولة على تثبيته في فيلم الايام الطويلة وفي رواياته وخروجه اما الجماهير هو يطلق النار اختفى سريعا كالألوان الذي يضعها مهرج على وجهه لخداع الجمهور، ما ان يخرج من عتمة المسرح الى الضوء حتى تسيل الالوان على وجهة فيكتشف الجمهور المضلل انها لم تكن غير اصباغ رخيصة مصممة لاغراض الخداع فالفضائل التي كان ينادي بها ما هي الا نقائض لطالما عاناها الشجاعة والمنازلة والاقتدار هذه كلها التي كان ينادي بها لم تكن الا جبنا اخفي اخفاء جيدا وعدم القبول بالضيم ما هو الا وسيلة لاخفاء رعدة كانت تعم روحه البائسة في ساعات الامتحان كان يقارن نفسه بنبوخذنصر وحمورابي لكن حقيقته ظهرت عندما سقط لم يكن احدا من أولئك انه ليس سوى حاو يرقص الافاعي مدعيا انه لايخاف السم لكنه عندما ظهرت الشرطة اختفى تاركا افاعيه وأحابيله والجمهور المتحلق حوله نهبا للدهشة من سماع صليل مفاتيحه المجلجل من بعيد لشدة هزيمته.

فلسفة الموت بين اللص والقديس
لم يعد موته الان مطلوبا فهو مات قبل زمن بعيد فحياة المرء هي التي تحدد شكل موته من عاش حياته كمجرم لا يحق له الموت ميتة قديس. القديس هو وحده من يحق له ذلك انه نوع الموت، هو مال طبيعي لنوع الحياة المعيشة لا يقصد بالموت هنا نيسان التنفس وهي حالة يتساوى فيها جالينوس براعي الغنم، بل الموت الذي لا يثير في القيم ارتباكا يجعل قائدا مثل خالد ابن الوليد يعبر عن حيرته ازاء موت وشيك لن يأخذ حياته الحافلة بالمعنى على محمل الاعتبار اذ بدلا من الموت في ساحة المعركة مغطى بالنبال مات متدثرا ببطانية.
كما في رواية “المعطف” لغوغول التي خرجت الروايات الروسية اللاحقة من جيبها.
هناك هزائم زائدة مثل المصدر فلدى استحضارها يصبح من السهل تعيين موقع جميع انواع الفرار الجديدة. فنوري السعيد الذي كان يقسم بشرفه للدفاع عن بلاده ارتدى وقد أحبطته الكارثة ملابس امرأة وموسوليني حامي شرف الامة انزل قبعته على عينيه واختلط مع مجموعة من السكارى في قعر سيارة بات من الصعب معه معرفة وجهة الا بالنور الكاشف كان كلامها يحاولان الاحتيال على قدرهما بالطريقة نفسها التي تتهرب بها امرأة تقدمت في السن من مسؤوليات الشيخوخة انها تجلس قبالة طاولة الزينة تعقص بيديها الناحلتين شعرها او ترخية وهي تنظر الى نهارها الموشك على التلاشي واضعة اللوم في ذلك على الشمس التي غربت قبل الاوان.
لم يصدق موسوليني هزيمته، الا عندما نصحه الكاردينال شوستر “حان الوقت للاعتراف بخطاياك” تردد قليلا، استل رشيشه ووضعه على كتفه وجد انه نسى كيف يضغط على الزناد اتصلت به زوجته هل ثمة احد يضحي من اجلك قال: كلا انني امضي نحو نهايتي وحيدا كان عجوزا متهاويا تحول وجهة الى ما يشبه لون الرماد واصبحت وجنتاه الناتئتان من شدة النحول أشبه بخشبات رفوف الجوارب عندما حلت نهايته الاخيرة كان عقله مشغولا بفكرتين الخوف من العار والخوف من الموت الاول: يستلزم الموت، والثاني: يستجلب العار.
عندما تسلم بول بوت السلطة عام 1975 ارسل مليونين من سكان المدن الى العمل في الريف. ماتوا كلهم عندما دخل الجنود الفيتناميون كمبوديا وجدوا مئات الآلاف من الجماجم معبأة على غرار جوز الهند في الصناديق. هرب بول بوت الى الغابات المجاورة للحدود التايلاندية بعدما نهب خزينة بلاده عندما قابله احد الصحفيين الأميركيين وجده يتكلم عن الشياطين الذين جاءوا من فيتنام وكأنهم من افلاك بعيدة ،هدفها نشر القذارة في بلاده عندما سأله الصحفي هل مات الملايين في عهدك؟ اجاب مرددا السؤال نفسه هل مات الملايين في عهدي؟ لم يكن قد سمع بذلك البتة حتى انه لم يسمع بمعتقل الموت الرهيب في بلاده تيول سلنغ المدرسة التي حولت الى مركز تحقيق ومعتقل قضى فيه الالاف من الكمبوديين مات عام 1995 في مجاهل غابات كمبوديا الكثيفة كان يعاني الملل. لم يكن هنالك ما يشغل به نفسه فمهنة القتل التي مارسها طويلا جعلته يشعر الان بأن عمره يمر سدى . عندما سأله الصحفي عن حاله أجاب باكيا: انت تنظر الي من الخارج ، لكنك لا تقدر عذابي” . عام 1979م لجأت مجموعة من الكمبوديين الى اميركا بعدما اصيبت بالعمى. اعيا هذا المرض الاطباء الذين لم يجدوا له تفسيرا اكتشف احد الادباء السبب: انهم لا يريدون ان يكونوا شهودا على ما يجري انهم العميان انفسهم الذين صورهم الكاتب البرتغالي خوسي ساراماغو في ملحمته البديعة “العمى” .

السلطة والهزيمة
ماذا حدث في 4/9؟ لا يتحدد اللغز في معرفة تاريخ هزيمته ، بل من هو المهزوم ؟ نحن لا نعرف الكثير عنه . اننا نعرف جانبا واحدا منه ، وما نعرفه جاء مما شاهدناه وهو في عز سلطته ، عندما لم يكن بوسعنا الا متابعة سلوكه اليومي وفهمه بمعزل عن صورته ، مثل شخص اعتاد طعاما معينا مدة طويلة من الزمن ، فلا يعود قادرا على تخليص حاسة الذوق لديه من الطعم المستعاد كيف تحول الرجل من اسم الى صفة ؟ تشبه شخصيته شخصية قارع الطبل الذي يتقدم دزينة من النعوش. يعطي صوت طبله والنعوش الملفوفة بالاعلام وراءه ، شكل الفكرة ثابتة عنه ، فيعود عليه صوت الطبل ومنظر النعوش المتهادية خلفة بلقب قارع طبول الموت . وهي صفة تملئنا بوهم فهمه . اما اذا خلف وراءه بيوتا تلتهمهما النار فسوف يضاف اليه لقب جديد وهكذا عندما يذكر اسمه تتسارع صفاته مصطفة في المقدمة وتحت الضوء فتصبح شخصيته حصيلة تلك الصفات متحولا من مظهر على السطح الى مانعتقد انه جوهره الفعلي . فنعرف كل شيء عنه من خلال صفاته وتنتفي الحاجة الى قراءته مرة اخرى . هذا هو الطريق الملكي والصفات .
اذا ادخلت اسمه في موقع غوغل كي تبحث عنه فستجد انه هناك عنوانا صفاته كلها:
ماذا فعل؟ هنالك اغنية عندما كان في السلطة كادت ان تكون مسموعة يوميا ، وهي تركز على افعاله التي تحولت الى صفات : الجاي من العوجة/ خيوله مسروجة. الضارب اسرائيل/ خله دمهة يسيل. الجميع يعرف انه ضرب اسرائيل ولكن لا احد يذكر مقدار التعويضات المالية التي دفعها الى الدولة العبرية .
لقد حولته افعاله الاستثنائية الى شخصية خارقة غير قابلة للفصل عن اعماله ولابد لنا الان من اعانته على تطهير نفسه من اسطورته بعيدا عن ظله التي اتسع حتى غطى مساحات واسعة من العالم، ان الشخص الذي انهزم ليس هو الذي كنا ندعي معرفته عن طريق سرد صفاته يورد ميلان كونديرا ، في رواية “فالس الوداع” ، الحوار الاتي:
لدي فضول لأعرف كيف يفعل الصباغ فعله في الروح . ليس الموضوع موضوع صباغ . الشقراء تتفق لا شعوريا مع شعره . اما اذ كانت الشقراء سمراء صبغت شعرها باللون الاصفر فانها تريد ان تكون مخلصة لهذا اللون (الجديد) .
لدرس حال هذه المرأة لا بد من العودة الى لونها الاصلي : انها ليست شقراء وليست سمراء ايضا : سمراء تتدعي انها شقراء. انها تنتحل لنفسها دور شقراء . هذا هو المقصود بعبارة “فعل الصباغ فعله في الروح” لمعرفة هذه المرأة ينبغي درس ليس صورتها بعد ما اعملت الخضاب في شعرها ، بل المرأة السمراء التي لا تريد التمسك بلون شعرها لسأمها منه ، او لأنه اشبه بأثر حرق على الجلد لم تقو السنين على محوه ، فدهنته بالمراهم لأزالته ولكنها ما ان تعود الى البيت وتزيل المساحيق حتى تميز في العتمة بأسى مكتوم ، بقعا غائرة واضحة المعاني على وجهها .

الأصل والظل
وعندما انهزم في 4/9 تاركا عاصمة البلاد من دون قتال اصيب الجميع بالدهشة وشك بعضهم بشخصية المهزوم : المهزوم ليس صدام حسين . نعم لم ينهزم صدام حسين ، بل المهزوم هو شخص آخر.
المدخل الذي شئته لدرس الرجل ليست صورته ، بل الشخص الآخر الذي يقف وراء الصورة . انني لا ادرس صدام حسين بل صدام التكريتي الذي حاول لعب دور صدام حسين عندما ينغمس الممثل في دوره يؤمن بالدور نفسه ، وليس بمضمون هذا الدور . فهو ليس ذلك الشخص الذي يجلس في شرفته يطيل التفكير في مدى تأثير ما قاله على أخرين . فالبطل ، هو يرفع قبعته تحية لجنوده في مشهد استعراضي ، لا يضيع وقته في السؤال عن مدى ضيق الشوارع المكتظة في ارتال الجنود ودرجة معاناته لدى البقاء وقتا طويلا تحت اشعة شمس تموز الكاوية . سيرهق البطل نفسه لدى التفكير في اسئلة اخرى : كم عليه ان يكون ارتفاع يده في المرة المقبلة وقياس خطواته ، وهو يسير نحو المنصة لأحداث تأثير اشد وطأة . تضؤل مساحة الجدار بين الرجل ذاته والرجل وهو يؤدي دورا . وتتحول العبارة التي يلقنها الممثل نفسه “دعني اتظاهر” الى باب مغلق يمنع شخصيته من العودة الى واقعها فهي تبدأ بخض صوتها في المحادثات العامة لأحداث تأثير اكبر متناسية انها انهت دورها ومعتقدة انها مازالت على المسرح وان الناظرة مستمرون في الاصغاء تتعرض الشخصية الفعلية بالهزال و الضمور عندما تصغر سماحته لظلها بالنمو، اصاب جنون الممثل العظيم ياكو فليف بعد اداءه دور ميشكين في “الابله” لدوستوفيسكي لأنه لم يعد قادرا ان يعود الى ذاته بعيدا عن ما تقمصه من دور . ببساطة لم يعد بمقدوره ، العودة نحو الحالة الاولى .
عندما اجتمع موسوليني مع جنرالاته وقاد الجيش المنهار تحدث اليهم عن بلد آخر غير بلده وعن ازمان اخرى عندما أذاعوا عليه الحقيقة ،اجاب قائلا دون ايلاء كلامهم الثقة المفترضة “صدقوا شيبي وتقدمي في العمر فأن سأبلغ الستين قريبا” وعندما اخبروه بحقيقته فداحة الوضع قال: “هؤلاء ليسوا بإيطاليين انهم ليسوا سليلي روما بل عبيدها المهجنون” .
المدخل الى درس الرجل ليس الصورة ، بل الرجل هو صيرورة تحوله الى الصورة ليس الظل بل رجل الظل وهو يتحول الى شخصية منحولة اليه : صدام التكريتي الذي ظل يلاحق صورة ظله صدام حسين وهو يلقي خطبة ، يعلن الحرب على بلد آخر يحتفل بعيد ميلاده كان يتحرك البطل في غابة من الاحلام الصلبة التي لا يكشف النهوض في صباح اليوم التالي بطلانه ، فما يشهده ليس واقع غير واقع حافل ببصمات اصابعه على كل ما يحدث . هو الواقع هو الذي دفعه الى اعلان ان القوانين تكتسب قوتها عندما يمهرها بتوقيعه . باتت هذه الحقائق باعثا على المغالاة في المضي في تحويل ادءه المصطنع الى واقعي من دون ان يصدق ان كل هذا يحدث في خياله فهو عندما وجد ان صورة ظله بالارتداد الى الدين اعلن هناك رئيسا مؤمنا . وعندما امن بذلك وجد دون وعي منه ، ان كلمات الدين بدأت تظهر بخطبة فلم يجد جدوى من استشارة رجل دين الحلول لا تراوغ البطل عندما يكون في حاجة اليها . تجري الاحداث الكبرى وفقا للسياق الاتي البطل يرى نفسه في مرآة بطولته فتكف شخصيته الفعلية عن النمو فاسحة في المجال لشخصيته الثانية بالحلول محلها ولكنه في الوقت الذي يصبح لشدة سيطرة ظله عليه، حرا في الاداء يمسي عبدا مقتضيات رجل الصورة التي يستميت من اجل المحافظة على القائها . كيف؟

صورة محل صورة
عندما احكم سيطرته على السياسة واخضع كل شيء للضرورات التي اقتضاها بناء صورته كبطل والتي انساق الحزب والدولة الى ترسيخها . بدأت الصورة تتساقط واحدة تلو الاخرى اذ ما ان تلحق الصورة وتبلى حتى تأتي واحدة اخرى اقوى منها تحل محلها وهكذا . بدأ يضبط أداءها على وقع تلك الصناعة المعقدة والمفبركة من الصورة التي كان يقف امامها يملئها ، يستوعبها ، يصيبه الملل عندما يلفيه مفتقدا للأثارة فيطالب بالمزيد (أوه هذا لا شيء . هل لديكم ما هو اكثر من هذا ؟ ) بهذه الطريقة قاد ادلاءه الذي قادوه بدورهم الى اماكن ساخنة وشعاب صخرية وعرة وهو يتبع صورته التي رسمها لنفسه والتي زادها الاخرون ضراوة على غرار ما يفعل راو يبالغ في زغرفة بطل روايته لأرضاء جمهور تواق لسماع قصص عن مشاجرات البطل وكيفية مواجهته للأخطاء يفقد البطل اتزانه من كثرة توارد الصور فينخرط في سباق مثير مع صور التي يتم تجهيزها له بأستمرار تنذر طريقة جري البطل وراء صورته/ ظله بالنحو الذي سيكون عليه مصيره لا ينتهي سباق الشخصية باللحاق بصورتها/ ظلها الا بهلاك الشخصية تشبه صلة الرجل بظله الرابطة التي تربط صاحب متجر للملابس بنموذج العرض الذي ينتصب في واجهة متجره . فتاره يلبسه معطفا يتجاوز الركبة مع شراشيب المارشالية المتدلية على الكتفين وحذاء عسكري كالحذاء الذي ينتعله قادة الجيوش وتارة بزة بيضاء بلون الحليب وتارة يتعمر شماغا ذا نقشة حمراء ، او صدره وسراويل داكنة من قماش الفراك ، مع قبعة لونها كلون الحذاء وكذلك لانتزاع اعجاب المارة مايرتديه نموذج العرض له صلة مباشرة بمدى الاقبال على شراءه يفنى الرجل الاول حياته وهو يعيش مراهقا تحت وطأة هذا الاستعباد المستبد لحيوية السوق المتمثلة بنموذجه اذ لا يكاد يستشعر وجود فتوى في السوق حتى يسرع الى نموذجه يلبسه قبعة الجنرالات ونظارات محققي البوليس المعتمة ،زارعا في فمه سيجارا كوبيا رافعا يده ليعطي طول قامته تأثيرا محببا تتحول العلاقة بين الشخصية الفعلية ونموذجها المصنوع الى تواطئ مميت ، عندما يستدرج النموذج في الواجهة المتأثر بنزوات السوق مالكه الفعلي بأمان واحلام ماكرة تدفعه الى الاستثمار في اعمال بالغة الخطر وكثيرا ما تؤدي به الى الهلاك ليست الميول الاستعراضية هي ما تربط هذا البطل بصورته ، انما وحدة المحنة ان يدفع الرجل الاول ظله بأزالة ما الحق به من مرارات واخفاقات سكنت الجانب المعتم من حياته كل ضربة للخصوم ، كل حرب على الاعداء الذين تتجسد فيهم قسوة زوج الام المتهاونة في درء الاذى عن ولدها ، تجعله جديدا ليس من وقت لديه يبدل . على الذكريات فالرجل الاول وهو يحتجب خلف اناء فارسه لا ينشغل في حوار مع بطل يستمتع بافكار خفية معه . انه يحول بطله الى مشحذ جلدي لسن سكاكين غيظه دافعا اياه الى معارك متهورة ومستمرة ودائمة دوام غيظه.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة