إسماعيل زاير
لا تليق كلمات العزاء، ولا اناشيد الفقد بقدرك، ولا بهيبتك وقامتك. فكيف بنا وقد مالت اوتاد خيمتنا وذبلت اوتار نشيدنا الوجودي ..؟
فمن بين سنبلات العنبر الشامي، تسللت نفحة الروح الحية التي اختزلت اديم الفرات، وهواء البوادي الشاسعة التي انعشت قلب المعلم الجميل مهدي الحافظ، واحتفظت بعذوبة سرمدية، غطت عقود عمره الباشقة.
ومن بين قوافي العرب الأصيلة، والمحملة بعبق النضج، والحكمة، والعذوبة، تكونت بوصلة الفكر المستنير، وانتشرت شجرتها الارضية الودود.
معك يا ابا خيام، كنا نعرف جهات كثيرة غير الجهات الأربع، ولكننا ايضا عرفنا مكاننا، وصداقاتنا، وخصومنا في الداخل العراقي وفي الخارج.
اليوم نشعر بغصة، ونحن نتحدث عنك بوصفك غائباً عنا، وعن عشرات المفكرين، والسياسيين، والنواب، والقادة السياسيين، بل غيابك عن المنصة الوطنية، التي تتيح لملايين الناس ان يلمسوا في هذه الايام العسيرة على وطننا، نفحة الامل المفتقدة، وخطابك التنويري سواء في مجلس النواب، ام في المناسبات الغنية التي عملت على تأمينها في مركز التقدم والتنمية.
هؤلاء الذين يتابعونك، ويقرأونك، ويشاهدونك، والمستجيبون بكل اريحية لدعواتك، ومبادراتك ببحث اوضاع العراق.
لقد كنت قادراً على جمعهم في كل الأحوال، ولا سيما انتقاءاتك لمفكري الصف الاول في العراق لتقديم الرأي الآخر، بأفضل واوضح ما تكون فيه نتاجاتهم، واتيح لي ان اتعرف عن قرب الى قوة اقناعك لأنواع متعارضة المرجعيات الفكرية، والسياسية، وجعلهم يكشفون اوراقهم المهمة، ورغباتهم في التوجه نحو المسار الوطني الإصلاحي الصحيح، وفي اوقات مناسبة ومتطابقة مع حكمة الزمان، وحكمة المكان.
لم تكن مع هذا التيار او ذاك، بل كنت تياراً قائماً بذاته، قوياً، وعاتيا في تمسكه بالإصلاح السياسي والاقتصادي، ومقاوماً عنيداً للإرتجال والتبسيط، والنزعات التلفيقية، التي سادت في سياق تخطيط حكوماتنا لسياسات المستقبل.
ان الناظر الى اطروحات الحافظ، يرى كم هي مقنعة وواضحة ومنطقية واصيلة، برغم تعارضها الشديد مع اطروحات أخرى، تريد ان تستمر في العبث بمستقبل العراقيين عن وعي، او من دونه. وهذه الفضائل كانت سبباً لتعديل الكثير من المنطلقات المعمول بها في المؤسسات الوطنية، المسؤولة عن قيادة سفينة العراق في هذه المرحلة، التي ما تزال منذ سقوط الدكتاتورية عام 2003.
لقد كان المعلم مهدي الحافظ، الماسك بدفة السياسة والتخطيط على نحو مستمر، جعل الوطنية كمفهوم، ملتصقة بما يقول، وجعل العقل العراقي نابضاً في اوقات تعرض فيها البلد الى انكسارات جمة.
ولم يكن ابو خيام طائفياً قط، ولا دوغمائياً جامداً، لهذا فإن خريطة علاقاته انتشرت وتوزعت على كل الانواع المتواجدة، من مؤسسات واحزاب تعمل على ارض العراق العزيز على اختلافها وتعارضها.
وكان صوته عالياً وغير متلعثم، مع ان احداً لم يشهده غاضباً، او منفعلاً، بل كان وطنياً حتى النخاع، يجادل حيث يستحق الجدل، ويتفاعل ويقتنع حين يكون ذلك نفعا للبلاد.
ستغيب عنا اذن يا ابا خيام، وسنفتقدك في الأيام المقبلة، بل السنين المقبلة، وعزاؤنا انك رحلت، والعابثين بمستقبل العراق قد هزموا واحنوا رؤوسهم، بعد ان لمست الجماعات الارهابية قوة شكيمة العراقيين، لقد رحلت عنا، والظلاميون انهزموا، بعد ان كشف ابناء الرافدين عن معدنهم الحقيقي، واثبتوا ان الكبوة الي عاشها الجيش، بل العراق كله، انما هي كبوة عابرة.
سنفتقدك، ونحن نشهد تعديل الخلل الكبير الذي شاب مسار العراق، والمشقات التي رافقت انخفاض اسعار النفط بنحو كبير.
وسنفتقدك ونحن نحتفل بالنصر الكامل على الإرهاب، وبالدخول العراقي الى باب العلاقات العربية، والإقليمية، بثقة واحترام.
ان الحظ كان حليفنا في ان نترافق واياك خلال السنوات الماضية من نشاطك، ودأبك على العمل السليم، وتكريس المقتربات المنهجية، والمحترفة، والمسؤولة في التعاطي مع الشؤون العراقية، ومع الشؤون المرتبطة بسياسات الدول الكبرى ازاءنا.
ولا يسعنا هنا ونحن نؤبنك، الا ان نقول ان تعاليمك، ورؤيتك، وحكمتك، ستظل راسخة وحاضرة في وجداننا، ونحن ننظر الى المستقبل.
كما نؤكد اننا سنقوم بعملنا، وانت وافكارك حاضرون في وجداننا، وكتاباتك، واسهاماتك، وتحذيراتك حول المقتربات الخاطئة، وتلك السليمة، في مجالات الاقتصاد، والتخطيط، والإصلاح بكل فروعه واشكاله، ونعدها منهجا نهتدي به، ونستقرئه، ونعلمه لأجيال الكتاب والصحفيين الشباب.
واخيراً.. انت تعرف يا ابا خيام وانت في ابديتك المديدة، كم سنحزن عليك، وكم سنرتبك لأننا فقدناك.