ستبقى رائحة عنبر االشامية تنشر شذا عطرها محبةً وفكرا

في أربيعينية الراحل مهدي الحافظ..
عبدالزهرة الهنداوي
كاتب عراقي
بعنفوانه الذي عرفته عنه وبحيويته اللافتة لم يكن يدر بخلدي انني ساكتب مؤبنا رحيل القامة الكبيرة الدكتور مهدي الحافظ الذي غيبه الموت في لحظة ذهول اصابت الجميع … ولكن , هكذا هي الحياة ….
« ليس بمقدور الانسان ان يغطي جميع الاحداث والوقائع في حياته ، عندما يروم ان يسجل نوعا من الذكريات او بعضها ولذلك يكتب احيانا هذه الذكريات موجزة او محددة بمعنى انها لاتفي بهدف الاكتمال كما يرى البعض» ..
بهذه لكلمات المعبرة الواضحة كتب فقيدنا الدكتور مهدي الحافظ ، مقدمة اخر كتبه (محطات في حياتي) .. وكأنه يلتمس العذر ممن يعتبون عليه ويطالبونه بتدوين تاريخ حافل بالأحداث الكبيرة والتي تركت اثرا كبيرا على المستويين الوطني والدولي ..كان يريد ان يقول اعذروني ان لم اتمكن من كتابة كل ما تحت جنباتي فهو كثير وساعات الحياة لن تكفي للبوح به .. متنبئا بقرب وصوله إلى محطته الاخيرة و سيترجل من على صهوة جواده بعد ان خاض غمار الكثير من المعارك في جميع الاصعدة .. وفي كل معركة كان يخرج منها منتصرا . … مهدي الحافظ .. لايعرف الاستسلام او الوهن .. ولايؤمن بنظرية الامر الواقع .. فالواقع نتاجنا ونحن نغيره ان شئنا ذلك .
في الشامية مدينة العنبر ابصر نور الحياة ، بين حقول «الشلب» المترامية فحمل معه تلك الطيبة التي تشبه رائحة وطعم العنبر ، ومع الطيبة حمل ايضا قوة الشكيمة ومواجهة التحديات , ومن الشامية وعنبرها وطيبة اهلها انطلق إلى العوالم الاخرى حاملا معه هموم وآلام شعب ينتظر منقذا ، ليحلق عاليا في سماء العلم والنضال والجهاد الحقيقي فامضى حياته مناضلا تشهد له الساحات والمعتركات.
لست هنا بوارد الخوض في سيرة حياة الدكتور مهدي الحافظ الذي ترجل من علياء جواد الفكر والبناء مستعجلا الرحيل وما زال لديه الكثير من العطاء ،.. فسيرته ومسيرته اكبر واوسع من ان احيط بها من خلال هذه السطور القليلة المرتبكة ،، فأي جانب من جوانب حياته يمكنني الخوض فيه ؟.. فهو المناضل ، وهو الاكاديمي ، والسياسي المحنك وهو الخبير الدولي والوزير والكاتب والباحث والمفكر ، وقبل ذلك الانسان .. .. ولكن اردت ان اكتب شيئا عن السنوات التي قضيتها قريبا من الدكتور مهدي الحافظ .. فقد التقيته لأول مرة في عام 2004 عندما تسنم مهامه وزيرا للتخطيط ، وكنت لاول مرة التقي بوزير من وزراء العهد الجديد .. كان يحمل رؤية متقدمة للاصلاح التنموي المنشود .. كان يريد ان يؤسس لمرحلة جديدة من التخطيط السليم من خلال اشراك القطاع الخاص في التنمية ، فهو من اشد الداعمين لوجود قطاع خاص فاعل ومؤثر .
وعلى الرغم من ان وجوده على رأس وزارة التخطيط لم يدم طويلا ، الا انه تمكن من التأسيس للكثير من السياسات التتنموية السليمة ، فله يعود الفضل في الحفاظ على بقاء وزارة التخطيط ، عندما كانت سلطة الائتلاف المؤقتة تريد الغاءها لعدم وجود وزارة نظيرة لها في الولايات المتحدة الاميركية ، فوجد الحل في تغيير اسم الوزارة ، لتكون وزارة التخطيط والتعاون الانمائي ، واقنع الاميركان ان الوزارة لها مهام اخرى غير التخطيط ، فهي معنية بتطوير التعاون مع بلدان العالم وانها تعنى ايضا بقضايا التنمية بجميع تفاصيلها ،.. كما نجح الحافظ وبعد جهود كبيرة من تأسيس وترؤس اول هيئة وطنية للاعمار في العراق ، محاولا اعادة العمل بمبدأ مجلس الاعمار الذي تأسس عام 1950 لغاية 1959 ، ونجح في حشد الكثير من المواقف الدولية الداعمة للعراق تمخض عنها انعقاد مؤتمر مدريد للدول المانحة عام 2004 وما نتج عن ذلك المؤتمر من حصول العراق على منح واعانات دولية سخية ، تلا ذلك المؤتمر عدة مؤتمرات اخرى من بينها مؤتمر طوكيو ومؤتمر الدوحة ، وقد رافقته في بعض من تلك المؤتمرات ، ولم تتوقف جهوده وهو مايزال وزيرا للتخطيط ، فقد بذل جهودا كبيرة في معالجة ملف الدين العراقي المتضخم بسبب سياسات وحروب النظام السابق وحقق نجاحا كبيرا في تسوية الكثير من الديون التي كانت تثقل كاهل الاقتصاد العراقي في اطار نادي باريس .
وعلى الرغم من صعوبة الظروف التي كان يواجهها العراق في تلك الفترة ، الا ان الحافظ كان يسعى بقوة لاجراء التعداد العام للسكان ، مقدرا اهمية هذا المشروع لدعم التنمية من خلال ما يوفره من بيانات تنموية مهمة من شأنها مساعدة المخططين وراسمي السياسات الاقتصادية من وضع الخطط التنموية السليمة ، الا ان الخلافات السياسية وغياب التوافق حال دون تنفيذ هذا المشروع الحيوي, ولو كان نجح في هذا المسعى لجنب البلاد الكثير من المشكلات المالية والاقتصادية التي تعصف بنا اليوم .
كان الحافظ – رحمه الله – يمتلك رؤية ثاقبة للواقع التنموي بفضل خبرته الكبيرة ومايحمله من تأهيل علمي (دكتوراه في الاقتصاد) ممزوجة بحسه الاجتماعي وتحليله الكيمياوي ، ولو قدر له ان يستمر في ادارة ملف التخطيط والاعمار في العراق لسنتين اخريين لكان الوضع مختلفا تماما عما الت اليه مسارات الاحداث بعد ذلك .
رافقته في العديد من سفراته إلى خارج العراق وكنت اتلمس ذلك الاهتمام بشخصه من قبل الاخرين ، كما كان يقاتل من اجل ايصال صوت العراق إلى العالم ..
لم يدم بقاؤه في الوزارة طويلا ، فقد دفعت به المحاصصات بعيدا خارج المنظومة الحكومية في وقت كان البلد في احوج مايكون لرجل مثله .. ، الا انه لم يتوقف او يهن انما واصل نضاله من بوابات اخرى ،..
لم تنقطع علاقتي بالدكتور مهدي الحافظ ، فبعد مغادرته الوزارة بادر إلى تأسيس مركز للحوار والتنمية عام 2005 .. ثم اصدار مجلة الحوار لأتولى انا ادارة تحريرها منذ العدد الاول حتى صدور العدد الخامس والخمسين الذي صدر قبل رحيله باسابيع قليلة .. فضلا عن اصدار العديد من المطبوعات والكتب والنشرات عن المعهد وتنظيم عشرات الندوات المهمة التي تناولت شتى القضايا وكانت مخرجاتها تمثل موئلا مهما لأصحاب القرار في البلاد .
كان الدكتور الحافظ حريصا جدا على مواصلة شوطه حتى اللحظات الاخيرة من حياته ، فقبل ان يغادرنا بايام تحدث معي عن العدد الاخير من مجلة الحوار وما هي المواد التي سيتضمنها ، قلت له عند عودتك سيكون كل شيء على مايرام .. ولكن ….ماكانت الامور على مايرام .. فقد غادرنا حاملا حقيبته المليئة بالكثير من الافكار والمشاريع والهموم … وهناك ومن دون سابق حديث قرر ان ينيخ رحله مستريحا من عناء سفر طويل ومحطات كثيرة لم تكتمل .
برحيل الدكتور مهدي الحافظ خسرنا وخسر العراق فارسا من فرسانه الكبار .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة