في رواية (أيام الزهللة) لهدية حسين
د. نادية هناوي
تمثيل الشّر في الرواية الواقعية تحولات وتموجات تجعل الشخصية ذاتاً مركزية وهوية سردية فاعلة لا تستكين لكنها تخاتل، محملة بطاقة سلبية تراوغ لكنها تدمر.
وقد اختلفت التنظيرات وتفاوتت الرؤى وتغايرت وهي تحاول إعطاء تدليل لتمظهرات الشر وتلوناتها في الذات السردية ولا سيما تلك التنظيرات التي تطرح رؤى للجوانب الغائرة غير المعتادة التي تساق في إطار التوظيف الأدبي للشر ونزعته المتغلغلة التي تهيمن على الشخصية فتجعلها قوة ضاغطة وهدّامة تدفع نحو الانحراف.
وهذا ما وقف عنده المفكرون والفلاسفة فسارتر مثلا حاول تفسير ديالكتيك العواطف فوجد أن الشر ليس صورة ظاهرية.. وأن معرفة الأسباب لا تبدده..!!
ليغدو الشر وجهة نظر ارتدادية تعود إلى منطقة بوهيمية لا يتخلص منها الانسان إلا بعد أن يجتاز صراعاً مريراً مع نفسه ليكون كينونة تتحمل وزر أخطائها، مغالبة نزعاتها آمرة لا مأمورة وواعية لا مسيّرة طارحة عنها أهواء ورغبات لا يتم لها تحقيقها الا بفناء الآخر وتدميره.
والذات التي ترى في ذوائها بقاء الآخر إنما تنطلق من الكره كغريزة غائرة في غياهب الروح وإذا كانت نزعة الخير تحرر الذات من أدرانها فإن نزعة الشر تقيّدها بتلك الأدران ولهذا كان النضال ضد قيود الشر والرغبة في التحرر عسيراً ومريراً بسيرورة لا مناص منها ولا نهاية لها.
واذا كان الشر متغلغلا في الذات الانسانية كنزعة بقاء طبيعية تتولد بهدف الديمومة والاستمرار؛ فإن من الطبيعي أن يتجه الادب الواقعي عموماً والسردي تحديداً بالشخصية صوب تمثيل الشر بطريقة تغدو فيها هويتها مؤسلبة محمّلة بطاقة كره رهيبة، لا تؤذي الذات وحدها بل تدمر الآخر وتستبد به. وما ذلك الا لكون الشر ديالكتيكاً داخلياً ينبع من تركيبة انفعالية تكشف عن ضعف جانب الخير في الذات كما تعكس هول الكره الذي تكتنزه في داخلها أفراداً أو جماعات.
وتعد الرواية اهم الأجناس السردية القادرة على تجسيد هذا المنزع السلوكي لتوظفه كتكنيك فكري يغور في الشخصبة بمسلكية برانية طافية تحاول انتزاع الروح الانسانية الحرة منها.
وهذا ما راهنت عليه الروائية هدية حسين في روايتها( أيام الزهللة) الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت 2015 ناقلة هذا المنظور من إطاره الفلسفي إلى واقع نصي بمقصدية أكثر قرباً وإفهاماً، من خلال شخصية (المفوض حيران جبار) التي جمعت صفات الشر مؤدية دور البطل الذي استغور الشر داخله فحاول أن يزرعه في مدينة لم يعرف أهلها الا الامان والسلام، لا لشيء، إلا لكي يؤكد أن لا مكان يخلو من الشر ولا يُحتاج فيه إلى شرطي يؤدي واجبه، واهماً أنه بذلك يبحث عن حياة أفضل» لا شيء يفعله تمر الأيام والسجلات نظيفة يفتحها صفحة ويغلقها ثانية لا شيء يحدث في مدينة النور، لكي يسجله. لا جنح ولا جرائم لا معارك كبيرة. ولا خصومات « ص39..
وهذا ما جعل لهذه الشخصية هوية سردية مهزوزة من الداخل ومرعوبة من الخارج هدفها التخريب ومذهبها الإفساد وهي تسقط في هوة الإغواء وتتشبث بالقوة والشهوة مدمرة ذاتها والاخر بفوضوية.
وقد جعل السارد العليم من المكانين( مدينة النور/ مركز الشرطة) بؤرة السرد المركزية المتضادة بالمقاطع الوصفية التي تعكس المنظور الخارجي لحالة الوئام التي كانت عليها مدينة النور سطوحاً وباحات وشوارع وممرات كمكان أليف ومسالم ..وكيوتوبيا تفرض على المكين فيها خيرها ، بلا جرائم ولا خروقات ومن دون قوانين ملزمة أو شروط مفروضة مع سيادة تامة لكل مظاهر الحرية.. وقد عكس استهلال الرواية هذه اليوتوبيا حيث الأمان يسود بلا قوانين وأهلها طيبون بينما بدا مركز الشرطة مخيفاً مغلقاً وسرياً غريباً عن المدينة حديث البناء.
وقد عكست ملامح الشخصية الرئيسة (حيران جبار) بوجهه وهيئته وتلفتاته وتساؤلاته النزوع الشرير الذي يقف وراء إقامة مركز الشرطة في المدينة والكيفية التي أخذ بها يفكر في اساليب شيطانية من اجل أن يقوض هذا الواقع بما هو ضده» كيف لا تحدث جرائم ؟ هل جئتم من مجرات لا نعرفها ؟» ص40
وهذا ما مكّنه من تمرير دسائسه ومخططاته على أبناء مدينة النور فارضاً عليهم الخروج من فطرة الخير التي جبلوا عليها الى أفنانين الشر التي قادهم اليها بوسائل متعددة.
ولان أبناء هذه المدينة طيبون، لذلك انطلى عليهم هذا النزوع الشرير وصاروا يبررون لحيران شكوكه في بحثه عن جريمة تؤكد له صدق فرضياته وصحة توجساته متجاوبين بايجابية مع سوء ظنونه واهتمامه بمعرفة الأسماء وارقام البيوت وتدقيق السجلات.. ويتمادى في افعاله الشريرة، وهم لا يرون فظاعته متعاملين مع صرامته بمحبة أما هو فكان يداري مشاعر الكبت والحرمان بالعقاب محاولا تحطيم المعنويات وتهشيم الآمال والتطلعات مقابلا الخير بالشر مصادراً الانسانية بالواجب.
ولانهم ما كانوا واعين للمكيدة التي يصنعها حيران واعوانه لهم ، لذلك غادروا اليوتوبيا التي كانوا فيها الى الابد حتى أصبحت مجرد حلم عودة مستحيل. وغدا التفكير بإمكانية وجودها واقعاً، محض فرضية متهافتة وخائبة.
وأدى توظيف الصمت على مستوى الشخصيات الثانوية إلى توكيد حقيقة أن الشر ما طال هوياتها ككينونات انسانية ولهذا اختارت السكوت والتسليم وأنها وإن وقعت تحت طائلة القمع الجماعي إلا إنها ظلت متحصنة من حدة غلواء الشر، بينما اختارت الشخصية الشريرة البوح والاعلان كوسيلة تفرض بها قوتها الشريرة على الاخرين وتؤكد بها قدرتها على تحقيق اهدافها ولهذا تأزمت شخصية حيران في حين ظلت الشخصيات الخيّرة محافظة على وقارها وثباتها …
ومن أساليب حيران في إشاعة الشر هندسته لمخطط رهيب يشتغل على تفاصيل المكان/المدينة مستبيحاً اطمئنانها بالاغتيال والتشريد والإرهاب متفقدا تفاصيلها معيدا بناء المدينة من جديد( المركز الصحي والبيوت المزدانة بالحدائق وحي التنك والعائلات القاطنة فيه) فتتحول من أماكن مفتوحة ذات تفاصيل كثيرة إلى مناف مغلقة بلا تفاصيل.
وقد عملت الاستباقات على توجيه القارئ نحو مقصدية هندسة المكان النصي في الرواية « هذا الحي الذي سيكون له كلام آخر في حكايتنا هذه» ص37 ولان الراوي عليم لذلك هو لا يتوانى من مكاشفة القارئ ببعض التصورات كقوله:» بعض الوعود .. وعود براقة لن تجد طريقها إلى التنفيذ في قابل الأيام « ص28
وأسهم توظيف المونولوجات الداخلية في توكيد التأزم الذي طال الشخصية الشريرة متمثلا بتغلغل الشك والارتياب الى نفس حيران مما أيقظ في دواخله التساؤلات والاستفهامات حتى ادرك أن الشر صنيعته.
ويبلغ التأزم ذروته حين يتصور الوهم حقيقة والفضول مهارة، وبذلك يتعزز ازدراؤه للواقع وتحتدم نظرته لذاته أيضا.. فتصبح مملوءة بالجفاء والخواء.
وإذا كان مركز الشرطة هو السلطة العليا التي لا ترى الناس الا مجرد سجلات وأرقام؛ فان الجزء المنزوي من المدينة (حي التنك) سيغدو هو الهامش الذي سيعكس التضاد مع المكان / المركز وكأن الشيء لا يعرف إلا بضده. فتتصاعد دراماتيكية الرواية.. فهل سيتمكن الشر من خلخلة الخير واختراقه بالفتنة وزعزعة الأمن.؟؟.
إن الصورة التي ينتهي اليها المفوض حيران وقد توزعت هويته بين واحدة تود إدامة الخير وأخرى تريد خلخلته هي المفارقة الساخرة التي توصل إلينا وجهة النظر الجمالية التي مؤداها أن لمركزية الشر قبحاً يكمن في هامشية الخير وأن الحياة ما بنيت إلا على الأضداد.
وبذلك تجسد رواية( أيام الزهللة) واقعية الشر كنزعة تتغلغل في الشخصية لتجعل منها ذاتاً سردية فاعلة تنضوي أفعالها تحت طائلة الالتزام وجدوى الواجب لتكون المحصلة صادمة أن الإحساس بحاجة الحياة إلى قانون ينظمها ويضمن لأبنائها السعادة والرجاء ليس حتمياً دائماً..وعن ذلك يعبر سارتر» إننا لا نخلد بالركض وراء الخلود..بل لأننا حاربنا بتفان في عصرنا ولأننا أحببناه بتفان وقبلنا أن نفنى كليا معه» الادب الملتزم ص12
واذا كان الفيلسوف كروتشة قد انتقد أولئك الذين يجعلون للفن غاية توجه الانسان نحو الخير وتبث فيه كره الشر كي يصلح من عاداته ويقوم أخلاقه؛ فإن بالمقابل يمكن للفن نفسه أن يُتخذ وسيلةً للوعي وفهم الواقع وهذا ما عبَّر عنه الناقد ارنست كاسيرر بالقول: ( إن الفن يحوِّل كل الآلام والهياجات وكل ضروب الجور والمفزعات إلى وسيلة لتحرير الذات وبذلك يعطينا حرية داخلية لا نبلغها بوسيلة أخرى)