هشام المدفعي
اعتادت الصباح الجديد ، انطلاقاً من مبادئ أخلاقيات المهنة أن تولي اهتماماً كبير اً لرموز العراق ورواده في مجالات المعرفة والفكر والإبداع
، وممن أسهم في إغناء مسيرة العراق من خلال المنجز الوطني الذي ترك بصماته عبر سفر التاريخ ، لتكون شاهداً على حجم العطاء الثري
والانتمائية العراقية .
واستعرضنا في أعداد سابقة العديد من الكتب والمذكرات التي تناولت شتى صنوف المعرفة والتخصص وفي مجالات متنوعة ، بهدف أن
نسهم في إيصال ما تحمله من أفكار ورؤى ، نعتقد أن فيها الكثير مما يمكن أن يحقق إضافات في إغناء المسيرة الإنمائية للتجربة العراقية
الجديدة .
وبناءً على ذلك تبدأ الصباح الجديد بنشر فصول من كتاب المهندس المعماري الرائد هشام المدفعي ، تقدير اً واعتزاز اً بهذا الجهد التوثيقي
والعلمي في مجال الفن المعماري ، والذي شكل إضافة مهمة في مجال الهندسة العمرانية والبنائية وما يحيط بهما في تأريخ العراق .
الكتاب يقع في ) 670 ( صفحة من القطع الكبير، صدر حديثاً عن مطابع دار الأديب في عمان-الأردن، وموثق بعشرات الصور التأريخية.
الحلقة 23
الفصل الحادي عشر
نصبا الجندي المجهول وشهداء قادسية صدام
نصب الجندي المجهول، نصب شهداء قادسية صدام، الندوة الفكرية الثقافية لنصبي الجندي المجهول وشهداء قادسية صدام , العثور على كنز من الليرات العباسية ,وفاة زوجتي سعاد علي مظلوم
مشروع نصب الجندي المجهول
هذا مشروع عملاق آخر. كانت اعمال مشروع الجندي المجهول قد بوشر بها من قبل الشركة العامة للمقاولات في كانون الثاني 1980 قبل ارتباطي بأمانة العاصمة. وهو من اعمال الفنان العراقي خالد الرحال. واعماله الاستشارية المعمارية والهندسية عهدت الى الاستشاري العالمي دي اوليفيو والانشائي العالمي كاليوزي ( ميلانو ـ ايطاليا ) ، وتولت الشركة العامة للمقاولات الانشائية اعمال المقاولة ، وبلغت كلفته زهاء 12 مليون دينار .
كان جهاز الاشراف يتكون من مهندس مدني هو السيد عادل عبد الوهاب يمثل امانة العاصمة للمقاولات . لقد تولدت لدي قناعة بعد عشرين عاما من التعامل مع الشركة العامة للمقاولات ، ان العمل معها متعب جدا ، لعدم التزامها بتطبيق مواصفات الاعمال ، ليس لانها لاترغب بذلك ، بل لقلة خبرة مهندسيها ، وعدم وجود كوادر هندسية لها من الكفاءة والفعالية لتسلم اعمال كبيرة . الا ان هذه الشركة حكومية وتعمل على وفق مناهج السلطة ومتطلباتها ، فأنجزت بسبب التسهيلات المقدمة لها العديد من الاعمال المهمة .
تضمنت اعمال نصب الجندي المجهول تطبيق تصاميم الفنان خالد الرحال ، وهو يصور درعا تسقط من قبضة محارب في ساحة المعركة وهو يلفظ انفاسه الاخيرة وتحتها قبر افتراضي للجندي المجهول ، وبجانبه سارية اعلام ترمز الى الوان العلم العراقي ، كتب عليها بيت الشعر العربي المشهور :
بيض صنائعنا سود وقائعنا خضر مرابعنا حمر مواضينا
تقع تحت ويحيط بهذه المنصة الكبيرة من جميع جوانبها , فضاءات واسعة لمتحف كبير يضم معالم تاريخ الجيش العراقي والجيوش العربية والاسلامية من ملابس واسلحة ومعدات عسكرية .تتخلل سقف المتحف اشعة منبعثة من مركز النصب وتنحدر نحو الاسفل ، تنار الفضاءات ليلا ونهارا .
لتنظيم اعمال هذا المشروع وتوجيهه بشكل صحيح ، لينجز في 30 تموز 1981 ، ادخلت على جهاز الاشراف عددا من المهندسين لمساعدة مهندسنا المقيم عادل. كما ادخلت مساحي كميات يدققون الانجازات اليومية ، ويجرون عمليات التقييم مع حسابات الكلف والنوعية . كان الصراع مستمرا بين جهازي التنفيذ والاشراف ،وبالطريقة المرتبكة التي يعمل بها بعض مهندسي الشركة العامة للمقاولات . غير ان زيارة رئيس الجمهورية المستمرة للمشروع الذي لايبعد كثيرا عن مقره في القصر الجمهوري ، كانت تدفع كثيرا نحو المثابرة لانجازه بشكل متقن .
المعروف ان مفهوم الجندي المجهول ظهر لاول مرة في منتصف القرن التاسع عشر في احد الحروب الاوروبية ، وفي اعقاب الحرب العالمية الثانية شيد اول قبر للجندي المجهول تحت قوس النصر في باريس ، عندما اجتاحت اوروبا مشاعر الحزن والاسى بسبب خسارة الملايين في ميادين الحرب ، وعدد كبير منهم لم يعثر على جثثهم ، ثم رمز اليه باشكال وانماط مختلفة في انحاء العالم . وفي العراق كان المعماري رفعة الجادرجي قد وضع تصميم الجندي المجهول الذي نفذ وافتتح في عهد الزعيم عبد الكريم قاسم . وهو جداران يلتقيان من الاعلى فيكونان قوسا من الكونكريت يرتفع نحو 25 مترا عن الارض ، وينفتحان من الاسفل . وتحت هذا القوس موضع تخرج منه النار الازلية المعبرة عن خلود الجندي المجهول .
قبل افتتاح نصب الجندي المجهول الجديد ، كلفت بتهديم النصب القديم وازالته لعدم قبول فكرة وجود نصبين للجندي المجهول ، فعهدت الى شركة ( انركوبرجكت ) اليوغسلافية بهذه المهمة . وقد طلب مني صديقي رفعة الجادرجي ان احتفظ له ببلاطة من بلاط المرمر للنصب القديم كذكرى لاحد اعماله . هذه البلاطة محفوظة عندي الى يومنا ، لعدم عودة رفعة الى العراق لتسلمها .
قبر الجندي المجهول الجديد ، مشيد بشكل صمم من قبل خالد الرحال بصورة جميلة وفريدة مكعب بقياس (2.5 ×2.5 × 2.5) مصنوع من الحديد غير القابل للصدأ (Stainless Steel) ، المكعب مصنوع من صفائح متماثلة الصنع ، بطبقات سبع متموجة ، عرض الواحدة منها بنحو 30 سم ، تحيط بالقبر ومتداخلة احيانا ، لتصبح بتكوينها اللماع وظلالها ووهج انعكاس الانارة المحيطة ، منظرا مهيبا يدعو الى توقف الزوار للتمعن بهذا الجزء المتميز وتأمله .
فوق القبر ويظلله درع عربية دائرية على شكل صحن مقعر ، موضوعة بزاوية 45 . تتكون من هيكل حديدي هائل قطره (50) مترا ، يرتكز من زاوية واحدة ، ويظلل القبر عند الغروب . هذا الدرع الحديدية ترتكز على الواح وتربط مع الاساس بثمانية براغي ، طول الواحد ثلاثة امتار وبقطر 20 سم . وتغلف هذا الدرع الواح نحاسية من الخارج ، والواح الالمنيوم من الداخل .
شيدت ارضية النصب المحيطة بالقبر وتحت الدرع من حجر الكرانيت الاحمر اللماع . اما بقية ارضيات المنصة العليا فمبلطة بالمرمر الابيض . ولم تحدث مشكلة في هذا الشأن كما حدث في نصب الشهيد ، بسبب معرفة الاستشاري الايطالي بالنوعيات المناسبة للعمل ، وحسن اختياره للمادة المستعملة ، واسلوب العمل .
اما اسس درع الجندي المجهول ، ولتثبيت الوزن الكبير له بشكل متوازن وصحيح ، فقد جاء التصميم بحيث يكون اساسه على شكل ( Raft ) ، تسنده جسور كونكريتية كبيرة لكل ثلاث امتار بشكل طولي وعرضي. تتخلل جميع الاسس مجموعة من الخلايا بأبعاد 2.5 ×2.5 × 2.5 م تصلح ان تكون قبورا . ومن هنا فكرنا في بعض الاوقات باستغلالها لتكون قبورا لكبار القادة العسكريين او ماشابه ذلك . الا ان من توصيات ندوة النصب التي ذكرناها سابقا بعدم جواز السير على القبور ، قد الغيت فكرة القبور .
يحيط بكل هذه التكوينات الانشائية جدار دائري بقطر نحو 150 مترا من الكونكريت ، ويبلغ ارتفاعه نحو ستة امتار ، تستند عليه الاشكال الشعاعية من ناحية ، وتنحدر مقاربة للارض من الناحية الاخرى .يكون الفضاء حول هذا الجدار الساند حتى نهاية الاشكال الشعاعية المساحة المخصصة للمتحف العسكري .
تكررت زيارات رئيس الجمهورية الى المشروع ، وكثيرا ما اصطحب معه ضيوفه الكبار في هذه الزيارات . بدا الرئيس فخورا وفرحا بنوعية العمل ، وبفكرة الجندي المجهول . كان يستمتع بلقائه مع الفنان خالد الرحال . كنا نتوقع زيارة رئيس الجمهورية الى المشروع كلما سمعنا عن طريق اجهزة المخاطبة لامانة العاصمة استدعاء خالد الرحال الى الموقع .
خالد الرحال فنان موهوب فكرا وابداعا . شارك في مسابقة نصب الجندي المجهول الجديد ، وفاز فيها لتناط به التفاصيل التصميمية للمشروع . كان خالد مقتنعا بفكرة قبول مقترحه وتعيينه مديرا عاما في امانة العاصمة ، ليعمل على تحقيق هذا المشروع . ولطالما حدثنا عن فكرة الدرع المائل ، فيمسك الصحن الذي امامه ويشرح فكرة درعه والقبر تحته والراية الى جانبه . ويبدو ان الفكرة كانت اصيلة في فكره وشعوره وابداعه ، فقرر تنفيذها بحرص بالغ .
استشاط الرحال غيظاً ، عندما عرف ان جائزة الفنان اسماعيل فتاح الترك التي خصصتها رئاسة الجمهورية كانت 50 الف دينار ، وانه من الغباء ان يغفل عن هذه الجائزة النقدية الكبيرة ، ويكتفي بمنصب مدير عام . ظل خالد يتحدث عن هذا الامر في مختلف المجالس ، حتى وصل الى مسمع صدام حسين . خابرني هاتفيا رئيس ديوان رئاسة الجمهورية وسأل عن مبلغ ما دفع عن جائزة نصب الشهيد . ولما ايدت له المبلغ المذكور ، طلب من خالد الحضور الى الرئاسة .
عاد خالد من هناك ، فرمى على مكتبي رزمة من الاوراق النقدية ، للتعبير عن سروره بالحصول على الجائزة ، فطلبت منه ان يكرم العاملين معه بهذه المناسبة . استدعي الرحال يوما الى نصب الجندي المجهول ، واتضح ان صدام حسين هو الذي استدعاه لتعريفه على رئيس جمهورية اليمن علي عبد الله صالح ، ليشرح له فكرة المشروع . وفي ختام اللقاء سأل صدام حسين الفنان بما يتمنى تحقيقه في حياته ، وهل له رغبة معينة لم يستطع تحقيقها لحد الان ؟ اجاب برغبته ان يدفن بعد موته في احدى ساحات نصب الجندي المجهول . بعد يومين وصلنا امر من رئاسة الجمهورية بما يلي : تنسبَ ان يُدفن الفنان خالد الرحال بعد وفاته في مشروع نصب الجندي المجهول .
لم نعرف اين نختار موقع قبر للرحال .. وعندما ناقشت خالد بالموضوع ، بدا وكأنه يلوم نفسه على ما طلبه من رئيس الجمهورية قائلا : ماذا يعنيني اين ادفن بعد موتي ؟! ، وكم كان مناسبا ان اطلب من الرئيس كذا وكذا . لم يمر زمن طويل حتى فجعنا بوفاة الفنان الكبيرخالد الرحال . وتحقق ما رغب به من مواراته الثرى في حدائق نصب الجندي المجهول وهو الوحيد الذي حصل على هذا التقييم لحد الآن .
في عصر احد ايام شهر حزيران 1981 ، كنت مجتمعا مع عدد من المهندسين في موقع المشروع ، واذا بصدام حسين يحضر الموقع . وبعد استقباله وتحيته ، تجولنا في انحاء المشروع ، شارحا له تقدم العمل ، واستعداداتنا لافتتاحه في تموز المقبل . عند تجوالنا على المنصة العليا خلف الدرع ، وقفنا معه مواجهين مشروع ساحة الاحتفالات الكبرى . لاحظنا القوسين الكبيرين في مدخل الساحة وآخرها ، وهما عبارة عن اقواس نصف بيضوية . كما لاحظنا القبة فوق منصة ضيوف الشرف كقوس مماثل . سأل صدام عن الجهة المصممة لذلك المشروع ، فبينت له ان العجالة في طلب تنفيذ المشاريع ، دعت وزارة الاسكان والتعمير الى الطلب من المقاولين العالميين وضع تصاميم المشروع ، وتقديم عروض التنفيذ على طريقة تسليم المفتاح ( Turn key )، لذا نرى احيانا ان التصاميم لا تحمل روحية وفكر المصمم العراقي او العربي الذي يعرف ذائقتنا وتراثنا ، ومن هنا جاءت هذه الاقواس الغريبة عن روحيتنا , كما تم نقل الاقواس الملغاة الى طرق مداخل بغداد باتجاه الحلة وكركوك .
امر صدام حسين برفع هذه الاقواس واستبدالها . وضعت السيوف العربية المتقاطعة الموجودة حاليا في ساحة الاحتفالات عوضاً عن الاقواس ، التي بدأ بتنفيذها الفنان خالد الرحال والسيوف هي تعبر عن سيوف عربية . واليد التي تقبض على السيف هي انطباع يد رئيس الجمهورية صدام حسين ، ولذا طلب خالد ان يصنع نموذج ليد صدام حسين من الجبس وكأنما تقبض على السيف، وبعد وفاة خالد الرحال اكمل العمل الفنان محمد غني حكمة . حدث ما يشبه الخلاف حول فكرة التصميم في يوم الافتتاح بين صدام حسين ومحمد غني حكمة حول طريقة القبض على السيف . ومنذ ذلك التاريخ لم تعهد الى حكمة اعمال فنية مهمة ولفترة طويلة .
وفي احد ايام تموز 1981 تم في احتفال مهيب جلب ووضع جثمان جندي مجهول من ساحات الحرب العراقية الايرانية . وبينما انا وخالد موجودان في الموقع حضر الاحتفال عدد كبير من مسؤولي الدولة مدنيين وعسكريين وكبار قادة الجيش .
كنت في بيتي اشاهد وقائع الاحتفال من على شاشة التلفزيون ، واتذكر اني شاهدت رئيس الجمهورية ودموع الحزن والاسى في عيونه ، والحرب لم تنه سنتها الاولى . تلك الدموع شوهدت في خطاباته اللاحقة بعد تطور وقائع الحرب ضراوة وقسوة .
علمت من الاستشاري المعماري الايطالي ( دي اوليفيو ) برسالة رسمية ، ان تصميم نصب الجندي المجهول العراقي حصل على الجائزة الهندسية الاولى في مسابقة عالمية في ايطاليا ، لتصميم هيكل انشائي باشكال فنية معبرة عن مفاهيم انسانية رفيعة لتخليد ذكرى شهداء ساحات القتال . وطلب مني ان احضر الى ايطاليا لتسلم الجائزة التقديرية ، الا اني اعتذرت لمشاغلي الكثيرة ، فحضر عوضا عني الفنان خالد الرحال مصمم الفكرة الاساسية لهذا النصب الكبير .