وصايا ثقافية

ثمة مَنْ يحتاج الى درس ثقافي في الوصايا الفاعلة، والى إعادة تأهيل منظومته في الوعي والخطاب، وفي كلِّ مجالات الاستعمال الثقافي..
هذه الوصايا ليست دعوة لأبوية افتراضية لترسيم السيطرة والرقابة، بل هي رؤية لاصطناع الخطاب المتجاوز، والباعثة على ضرورة التذكير والاستعادة، ولإعادة (البعض) الثقافي إلى ممارسة الثقافة بوصفها موقفاً من العالم، إذ إن هناك كثيرا من شطط التوهان، وكثيراً من التوهيم والتضليل، وربما كثيراً من (العفرتة).
أول هذه الوصايا: لا تبالغ بولائك الثقافي للسلطة وأصحاب الأيقونات والأكياس، لا تشتم أحداً بإفراط، ولا تمدح أحداً بإفراط…
إمدح فقط لحظة وعيك الذي يدلّك على منطقة الولاء العميقة، وعلى منطقة الممدوح، وبما ينأى بك عن المقدوح والمشتوم..
وصية الكتابة قد تكون ضرورة لتوثيق الوعي، فالكتابة لم تعد ظلاً، ولم تعد ذاكرة خالصة، ولا حتى وظيفة في الديوان الأميري أو الجمهوري أو الآيديولوجي، انها كائن آخر، فائق ومتعال، ويمشي بالتوازي أو بالتقاطع أو بالتضاد..
الكتابة في هذا السياق هي الوصية الكبرى؛ لأنها الترياق، ولأنها القرطاس والقلم، ولأنها الشهادة، والمعنى والحافظة، لذلك تأخذ هذه الوصية عمقها الأخلاقي والتاريخي من طبيعة ما يمارسه الحفارون الذين لا يبحثون في الأرض/ النص الاّ عمّا بقي من الوثائق والعلامات التي نجلو عبر حروفها حوافر العابرين والمدونين، وتاريخ الخطى والمدن والأبطال والشعراء والعشاق والجميلات والمجانين.. لذا لا تاريخ، ولا مجد لمن لا يملك شرط الكتابة، وكلّ الشفاهيات الخارجة عن سياق الوعي ستكون في خزائن الريح، وعند الأوهام التي لا يركض خلفها الا الواهمون..
وبرغم سعينا الدؤوب لأن نجعل من الكتابة (أثراً) فيه الحضور والمحو كما يقول دريدا.. وفيها أيضاً الوجود والغياب.. الاّ ان تاريخ ثقافتنا الشفاهي جداً ما زال يحتفظ بالكثير من الصناديق، الصناديق الحافظة للتعازيم، ولعصا الشيخ والفقيه والشرطي، تلك التي تفرض علينا سطوة ما تركه الحكواتيون الشفاهيون، أولئك الذين دأبوا على تأكيد صورة (بنوتنا) وصباوتنا التي لا تكبر، حيث نكون مريدين فقط، ومنشدين في الجوق، ولا حق لنا بالسرير الأبوي ولا بالجسد والخزائن والارث..
وصية الحرية تمثل جوهراً لشرعنة تصريف الوعي واستعماله، فهي شفرة الرؤية، وقوة الارادة، مثلما أنها جوهر المسؤولية وفاعلية الكشف لما يزدحم حولنا من أصنام..
هذه الأصنام الثقافية هي ذاتها لعبة الصناديق القديمة، فهي تعمل على تجيير الذائقة والمزاج الثقافيين الى وسط اغوائي، والى استيهامات يختلط فيها اللذوي مع السحري، وبما يجعلها أكثر خوضوعا لشهوة الاستمناء القهري لتلك الصناديق/ الأصنام، ولربما الاتباع الإيهامي لما تسوّغه من سلطنة عصابية وقرابية للصنم/ الرمز/ العرّاب/ الشاعر الكبير/ الروائي الكبير/ المفكر الكبير، والذي لا يكبر طبعاً ولا يشيخ… فقط نحن الأولاد الوحيدون الذين سيكونون عرضة للإصابة بعدوى الشيخوخة والسنوات الراكضة بعنف…
الخطر الأكثر رعباً في هذا المعطى، يتمثل في أن بعض (الأولاد) الناطين إلى إغواء الثقافة ما زالوا يصدقون حكاية أسحار الصناديق والأصنام، ويعيدون إنتاجها بشكل بائس… حدّ انهم لا يصدقون أن ثمة نهرا هيرقلطيسيا آخر، وثمة قطارات تمشي، ومقابر تتسع من دون حدود ومن دون خرائط…
الوصية الاخيرة هي العمل على ضرورة مواجهة صناعة الأوهام، وصناعة أشباح الصناديق، لأنها ستظل – كما يبدو- هي الصناعة المرعبة والمهددة، والأخطر منها أنّ نتورط بلعبة تزييف الوعي، تلك التي تترككنا عند المزيد من الأومام والمزيد من الجهات والطرق التي لاتؤدي الى أحدٍ، وربما ستدفعنا اضطراراً للعودة الى لزوجة التاريخ/ المتحف حيث رائحة العطب الصناديقي…
علي حسن الفواز

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة