ما تبقى من العراق

أي دولة يريد العراقيون ؟ وأي انموذج يفضلون لإدارة شؤون حياتهم ومصالحهم ؟ هذان السؤالان دون الجواب عنهما الكثير من الحواجز والشروط والمتطلبات . وحتى لو اننا حصلنا على هذه الشروط فأمامنا اكثر منها اي خطط نضعها لتنظيم مسيرتنا الى تحقيق هذان الهدفان ..

في سياق هذه القضية نتلمس العوائق والخلل والنواقص المنهجية والفكرية والعملية التي لا يمكننا مجرد التفكير بمسألة جوهرية في حياة الشعوب والامم دون تأمينها . والحقيقة ان الامم المتقدمة وتلك السائرة في خط النمو والنهوض تحتاج الى فترات طويلة من الجهود والمساعي المستهدفة لبناء هيكليات تحضيرية وتنشيط للأطر المساعدة والمتممة والمشجعة للإرتقاء بوعي المشاركين في تجسيد البرامج المؤدية الى بناء الدولة الحديثة التي ترنو اليها انظار العراقيين . وهذه كلها لا تتم من خلال التخيل او الإرتجال او التجريب ، بل الى التخطيط والدراسة والتحليل وصولاً الى استخلاص ما يناسبنا من التجارب العالمية الرفيعة والإنتباه الى العقبات المنتظرة في طريقنا الى اهدافنا وبالتالي يمكن لهذا كله اذا توفر ان نشرع في عملية البناء للعراق الجديد .

ان التجربة العراقية في الإدارة لا تعدو ان تكون صورة عن النماذج الشمولية التي سقطت لحسن الحظ امام انظارنا بعد عام 1988. فالنموذج السوفييتي الذي استنفذ طاقة الشعوب في المدار السابق للكتلة الإشتراكية بدد حياة الملايين من ابناء تلك الشعوب وبذر ثروات هائلة للبلدان وبالتالي سقط وتهاوى كما هو الهيكل الكارتوني او بيت من الرمال . ورأينا كم احتاجت شعوب تلك البلدان من جهود وافكار جديدة وكم ضحت من اجل عملية اعادة التركيب والبناء لنموذج اخر اكثر حرية وضماناً لسعادة المواطنين وتأمين عيشهم قبل الإنتقال الى الرفاهية التي حرمت منها مئات الملايين تعسفاً من قبل سياسيين عبدوا الإيديولوجيا والخيال السياسي اكثر مما اتبعوا الحقائق وبنوا على الوقائع والمتاح من الطاقات الشعبية والإمكانيات الكبيرة التي حوتها ارضهم ومياههم وسماؤهم .

عشر سنوات انتهت على دول الكتلة السوفيتية وبمساعدة عملاقة من العالم الغربي لتعود الى السكة الصحيحة والى الطريق الذي يمكن للشعوب ان ترى في نهايته نور الامل والرفاهية والإستقرار . وكان اول التحديات الخطيرة التي جرى التصدي لها فكرة الإنعزال عن التجارب البشرية وتسويق صيغة الإستقلال المحلي والاقليمي في ما يشبه بناء قلاع معزولة عن محيطها تعيش على فكرة الإفتراق عن جيرانها ومحيطها والتحدي لنماذجهم وتحديهم بقوة السلاح والانفاق على ترسانات عسكرية عملاقة ثبت انها لا تشكل وقت الشدة اكثر من اطر مهلهلة لا تصمد امام الهزات .

اما اليوم فقد اثبتت الشعوب المنعتقة من نير الإيديولوجيا ان رغبتها ، وبالأحرى مصلحتها الجوهرية ، تتلخص في التخلص من انموذج القلعة وتبني انموذج الجسر الرابط بين الشعوب وتعميق مسار المجرى التأريخي لتجارب الشعوب بحيث ينتفع منه الجميع ويتفاعل معه كل امة وشعب .

ما الذي يحصل في العراق اليوم ؟ هل نحن خارج هذا الاطار ؟ هل يمكننا ان نفهم الخلل في نظامنا الحكومي والسياسي ونجري عليه التغييرات المناسبة او المتناسبة مع حاجات شعبنا العراقي ؟ اليوم نحن غادرنا السنة العشرة على سقوط الدكتاتورية والنظام الشمولي الذي بنته دكتاتورية تعتمد القسر والإجبار في تأمين ولاء المواطنين وجعله تابعاً ليعمل كجندي ملزم بتنفيذ الأوامر . ولكننا بعد عقد من الزمان نكاد نجد انفسنا في نفس النقطة التي انطلقنا منها في 2003 . بل اننا بالاحرى نجد انفسنا وسط تيه شاسع لا نعرف موقعنا فيه من العالم ومن المحيط . لا بوصلة سياسية لدينا ولا هدف وطني يجمعنا ، هذا اذا ما ضربنا صفحاً عن حقيقة اننا نجد انفسنا كعراقيين اصبحنا اكثر انقساماً وعدنا بمفاهيمنا عن بعضنا الى الخلف … الخلف البعيد . لا يكاد يربطنا بماضينا الخلقي والسياسي والثقافي رابط . ومع اننا انشأنا نظاماً فيه من الملامح الشكلية للديمقراطية ما يضلل الكثير من المراقبين ، الا اننا لم نتمكن من اقناع المواطن ، وهو بالمناسبة الضحية السرمدية لأكاذيب السياسيين ، بمنافع واهلية النموذج الجديد . ولقد ارتنا التجربة البشرية المتوازية والتي عرضتها علينا وسائط الاعلام الكبرى والمتوسعة ، ملامحها بالعرض البطيء اننا لم نقم ببناء تجربة انسانية تستحق التمسك بها او تستحق منا التضحية لأجل استكمالها ومتابعة بنائها . فالكيان العراقي الراهن لا يعدو ان يكون كياناً ممسوخاً ومشوهاً لا نفع فيه للمواطن . فالدولة التي تنتمي لهذا النموذج وقفت عاجزة تماماً عن تلبية الحاجات اليومية للمواطن ، وبدلاً من توفير حرية ، ناهيكم عن الرفاهية المزعومة ، اضحت المؤسسات الحكومية قامعة للمواطن ومعيقة له في مسعاه للحصول على حقوقه الاساسية . بل انها زادت من معاناة الشعب من خلال تبذير موارده والتغاضي عن الثغرات الواسعة في القوانين والقرارات المبددة للثروات الوطنية . وشهدنا في هذه البلاد الكبيرة كيف اننا مع زيادة انتاجنا النفطي واستخراجنا المتنامي من الطاقة نرى ان بؤسنا اليومي في تزايد ايضاً . فالملايين من براميل النفط التي ننتجها والتي تتموضع في خطط تنمية ونهوض لا تجيب على حاجة الناس من خدمات وسكن ووظائف عمل . بل اننا اصبحنا نفخر بزيادة اعداد المواطنين الذي يتلقون رواتبهم من الدولة بدلاً من تعزيز الفعالية الإقتصادية للنشاط التجاري والصناعي للسكان . اي اننا عدنا الى ذات النموذج الهيكلي للدولة السوفيتية ونظامها الشمولي الذي تحولت فيه الدولة الى اكبر رب عمل في البلاد . هذا يشكل قمة التشوه ، فمن ناحية لم نخلق ضروفاً مناسبة لتفعيل المبادرات الوطنية في مجال الصناعة والزراعن والتجارة وقمنا بتحويل العاطلين عن الإنتاج خارج النظام الإداري الى موظفين يزيدون من عدد البطالة المقنعة . ببساطة انتقلنا الى تبدبد الموارد المالية المتاحة في معالجات باهتة ورديئة وغير منتجة .

في نظام الحكم فاقمت الممارسة السياسية تشوه النموذج العراقي في مجالات الإدارة والإقتصاد بتعزيزها مبادئ المحاصصة السياسية والتمسك بما يوصف بأنه الديمقراطية التوافقية بهدف خدمة المصالح المباشرة للكتل السياسية التي ورثت الدولة العراقية وسرقت مفاتيح البلاد الدستورية والقتها في بطن حوت كبير .

وبسبب هذا العمل اصبحنا غير قادرين على اصلاح نظامنا السياسي ولا تعديل دستورنا . بل ان اهل السياسة الحاليين يرون في محاولة للإصلاح الدستوري والتطوير القانوني تهديداً خطيراً لمصالحها وحصصها التي انتزعةها بفضل دستور ناقص وغير مكتمل . ولقد شهدنا ، في لحظات صفاء ضمير بعض الساسة العراقيين عندما اعترفوا ان الكتل السياسية الراهنة ترفض رفضاً باتاً تشريع قانون الأحزاب او قوانين اخرى هامة منها المؤسسات القانونية والهيئات المستقلة المعتبرة عنصر التوازن والضمان الدستوري للحياة اليومية .

لقد فرخت التجربة المستندة الى المحاصصة طائفيين اكثر بعشر مرات مما كان لدينا من امثال هذه الفئة الكريهة . وفرخت اطماع واسعة يمكن للمتحاصصين والمتوافقين ان يطمعوا فيها ويسعون الى رعايتها . وتحول هؤلاء الساسة الى عائق امام البلاد وامام الشعب الذي يرغب في استعادة مفاتيح البلاد . واوصلوا اهل العراق الى اليأس والاحباط بحيث ان العراق يمكن ان يفرغ من اهله لو اتيح للمواطن مكان يلجأ فيه مع اطفاله ووالديه اياً كان المكان بعيداً او قاسياً . ولهذا فقد تفرق العراقيون ايدي سبأ ، وهم يقيمون في عشرات البدان اليوم على هامش الحياة في انتظار مؤلم لإطلالة الامل بعودة وطنهم من بين ايدي الكتل السياسية . وعجباً نرى اليوم كيف ان تلك المصائب زادت بمجيء داعش واخوتها من البعثيين والظلاميين لتزيد مأساتهم وتهجرهم وتقتلعهم وتدمر تراثهم الإنساني الذي ، كما حصل مع المسيحيين ، عملوا في ترقيته واعلائه الاف السنين .

لقد تلاشت مواريث التنوير وجفت قنوات العقلانية والتسامح . بل ان العراقي اليوم تناسى رفاهه وحقوقه ولم يعد له شيء سوى النضال من اجل سلامته الخاصة .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة