2 – 2
أحمد فؤاد الخطيب
في عام 1989، بعدما اتضح أنه لا بدّ من حصول تدخل كبير نظرًا إلى الحرب الأهلية السودانية الثانية والمجاعة الكاسحة، وفرت “عملية شريان الحياة للسودان” مساعدة إنسانية إلى جميع المدنيين المعوزين بغض النظر عن موقعهم أو انتمائهم السياسي. وتمّ نقل أولئك الذين هم بحاجة إلى السفر إلى داخل وخارج بعض المناطق بواسطة آليات مختلفة تابعة للأمم المتحدة، بما فيها الطائرات. وقد كان ذلك مثال لتعامل الأمم المتحدة مع جماعة مسلحة غير حكومية بحكم الضرورة، ولكن من دون إضفاء اعتراف رسمي أو شرعية عليها.
قد يسارع بعض المراقبين للإشارة إلى فشل الأمم المتحدة في جنوب لبنان في منع “حزب الله” من تخزين كميات كبيرة من الأسلحة. غير أن الظروف السائدة في غزة مختلفة تمامًا ولن يتمّ تكرار نموذج قوات “اليونيفيل” في القطاع. فجنوب لبنان، بخلاف قطاع غزة المُحدّد والمحدود من حيث المكان والمساحة، هو منطقة شاسعة يتمتع بتضاريس وجغرافيا تسهّل عمليات التهريب. كما أن سوريا، التي تتشارك بحدود واسعة مع لبنان، هي شريك مُتعاون مع “حزب الله” في تهريب الأسلحة، بخلاف مصر التي أقفلت فعليًا أنفاق ومسارات التهريب.
وسيشكّل ضمان أمن المنشأة ومنع حركة “حماس” من التدخل في عملياتها موضع اهتمام كبير بالنسبة لإسرائيل ومصر والأمم المتحدة. وعلى الرغم من التهديدات القائمة، ما من مسألة أمنية لا يمكن تخطيها. فيجب أن يتمتع المطار بالاكتفاء الذاتي بشكل شبه كامل ويعمل كدولة داخل دولة. كما يجب أن يكون مُسوّراً وآمناً بالكامل ضد أي محاولات اختراق ومليئًا بكاميرات المراقبة التي يمكن للسلطات الإسرائيلية مراجعتها عند الضرورة. أما مسؤولو المطار ومدراؤه، فيجب أن يكونوا من خارج قطاع غزة. ويمكن الاستعانة بأعضاء بعثة الاتحاد الأوروبي إلى معبر رفح والتي تولت تنظيم العبور البري كجزء من قوات الشرطة الدولية لحماية مبنى المطار وإدارته. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يخضع الموظفين لتدريب نخبة ويتمتعوا بنزاهة مُثبتة ويتقاضوا رواتب جيدة لتجنب احتمال قبولهم الرشوة.
وسيكون ضمان أمن المطار أسهل أيضًا بما أن المنطقة المقترحة في مواصي خانيونس تضم مساحات مفتوحة قادرة على تحمّل ودعم مباني كبيرة داخل المُجمّع.
ومن شأن جعل المطار يعمل كمنشأة مستقلة، معزولة عن البيئة المسيّسة التي يتواجد فيها، أن يحميه من أي مساعٍ قد تبذلها “حماس” للتدخل في تشغيل أو إدارة المنشأة. فخلال الحرب الأخيرة مع إسرائيل، طلبت “حماس” إقامة مطار وميناء بحري في غزة للموافقة على وقف إطلاق النار. وقد يساور القلق البعض إزاء اعتبار إقامة مطار انتصارًا سياسيًا حققته الحركة الإسلامية. غير أن مطارًا لا يمكن لـ”حماس” أن تسيطر عليه أو أن تجني منه أي عائدات مالية، سيكون عديم الفائدة من الناحيتين السياسية والتكتيكية بالنسبة للجماعة. وليس من المفاجئ أن يتعارض ما هو مفيد لأبناء قطاع غزة مع مصالح حركة “حماس”.
وفي بادئ الأمر، يجب أن يُركزّ المطار على تلبية حاجة سكان قطاع غزة للسفر بغرض الدراسة والعمل وتلقي العلاج ومزاولة العمل والمشاركة في أنشطة مهنية وشخصية. وفي نهاية المطاف، يمكن تحويله إلى شريان اقتصادي وإنساني للشحن بالنسبة للقطاع ويمكنه المساهمة في إنعاش اقتصاد غزة الراكد. علاوةً على ذلك، قد يساعد المطار على تنقل عمال المنظمات غير الحكومية والدبلوماسيين والصحافيين والخبراء الدوليين.
سيساعد تطبيق اقتراح المطار الإنساني الأممي على إرساء الاستقرار في غزة، وجذب مستثمرين محتملين والحؤول دون اندلاع حرب جديدة وإعطاء الناس متنفسًا وزرع بذور التطور. وقد يستخدم كنموذج صغير رخيص نسبيًا لإقامة مرفأ ومحطة كهرباء ومنشأة لتحلية المياه وغيرها من السلع الباهظة الثمن.
من جهة أخرى، يشير تفاقم مشكلة الكهرباء والتجاذبات التي لا تنتهي البتة بين “السلطة الفلسطينية” وحركة “حماس” حول هذه القضية إلى الواقع الذي لا مفر منه المتمثل بأن هذه المشكلة لن تتحسن طالما أن الفلسطينيين يتولون إدارتها. وتماماً كما أقدم “البنك الدولي” على إقامة “مصلحة مياه بلديات الساحل”، المنظمة المسؤولة عن خدمات المياه والصرف الصحي في غزة، قد يسفر ترتيب مماثل عن وضع إدارة الكهرباء تحت إشراف هيئة دولية مؤهلة ومحايدة. فنقل إدارة توليد الكهرباء وتوزيعها وجمع الرسوم التي يدفعها المستهلكون وصيانة البنية التحتية والإشراف على العملية برمتها إلى منظمة أو هيئة دولية قد يؤدي إلى تأسيس نظام فعال يديره متخصصون من شأنه أن يخفف معاناة سكان القطاع ويمكن في نهاية المطاف تسليمه إلى الفلسطينيين ليتولوا إدارته عندما تسمح الظروف بذلك.
ورغم أن “السلطة الفلسطينية” تفرض حاليًا تدابير صارمة لممارسة الضغوط على حركة “حماس” كي تستسلم، أثبتت عشر سنوات من التعنت أن هذه الجهود غير مجدية. لقد استغل الفلسطينيون تدابير عبر الأمم المتحدة لتحقيق انتصارات رمزية ضد إسرائيل خلال الأشهر الماضية. وبدلًا من التركيز على البيانات الرمزية والقرارات الغير الملزمة والغير المجدية، يجدر بـ”السلطة الفلسطينية” الترحيب ودعم خطة أممية لتدويل غزة. سيتيح هذا فرصة فريدة لدخول السلطة بغطاء دولي أممي غير تقليدي إلى القطاع وسيضمن القدرة على محاسبة التعديات والتجاوزات من قبل كافة الأطراف، بما فيها “حماس”.
ومن بين كافة الجهات ذات العلاقة بشؤون غزة، تُعتبر إسرائيل أحد أفضل آمال سكان غزة للحصول على شريك براغماتي، يهتم فعليًا بتحقيق هدنة طويلة الأمد والسماح لقطاع غزة بالتطور. وبعد حل مشكلة جثامين الجنود والأسرى الحاليين الإسرائيليين في القطاع، يمكن أن نتوقّع من صناع القرار الإسرائيليين، الحاليين والمستقبليين على السواء، دعم المبادرات التي تُحسّن ظروف غزة بشكل براغماتي وسط أخذ حاجات إسرائيل الأمنية الشرعية في الحسبان في الوقت نفسه. فمعالجة مسألة انقطاع الكهرباء في غزة وإقامة مطار إنساني يتمتع بإدارة دولية وبالحماية الضرورية لسكان القطاع، سيساهم في إرساء الاستقرار في المنطقة وفي مساعدة سكان غزة، وأيضاً، في تحقيق مصالح ومكاسب مفيدة استراتيجياً لإسرائيل.
* الكاتب هو ناشط فلسطيني-أمريكي في المجال الإنساني من غزة ومقيم في سان فرانسيسكو.