خواطر عن العراق.. منذ الطفولة !

من أحاديث الثلاثاء
(1-2)
الدكتور زيد حمزة

العراق في الذاكرة قديم منذ أيام الطفولة فقد نشأنا في الاردن كغيرنا من بلاد عربية كثيرة تحكمها عائلات ملكية كأسرة محمد علي في مصر والسعوديين في الحجاز ونجد والسنوسيين في ليبيا والعلويين في المغرب والهاشميين عندنا في امارة شرق الاردن وفي المملكة العراقية وقد كان لاسم بغداد رنة خاصة كصدى لعصرها المجيد في عهد هارون الرشيد لكنا لم نكن نعرف إلا القليل عن ملكها فيصل الاول الذي أزاحه الفرنسيون عن عرش سوريا بعد أن اعتلاه برغبة من اهلها ثم انتقل للعراق ليصبح ملكا عليها ولم يكن واضحاً لنا كيف ! ومن أوائل الاخبار التي علقت بذاكرتي عن العراق في اثناء طفولتي حين بدأت أقرا الصحف في عمان كان مصرع الملك غازي في نيسان عام 1939 وصورة سيارته المرتطمة بعمود كهرباء، واذكر كيف تداول الاردنيون تفسير الحادث بانه مدبر ضد الملك لأنه كان يعارض السياسة البريطانية الاستعمارية في بلده ..
بعد ذلك بعامين وكنت في الصف الرابع الابتدائي وقد بلغت التاسعة حين دخلت علينا فجأة جموع من طلاب المدرسة الثانوية الحكومية الوحيدة في عمان يهتفون لثورة رشيد عالي الكيلاني في بغداد وخرجنا معهم دون ان ندري الى اين وسمعت هتافاً يتكرر لم أعرف كنهه ((يعيش ابو علي)) وفهمت بعد قليل ان المعنيّ هو هتلر قائد المانيا النازية الذي أيد الثورة العراقية ضد الاستعمار البريطاني وكانت الحرب العالمية الثانية في اوجها .. تجمعت المظاهرة في قلب العاصمة وانضم لها عدد غفير من المواطنين ثم توجهت الى قصر رغدان قصر الامير عبد الله وهو من نفس العائلة التي تحكم العراق ! وقد خرج الينا غاضباً وحوله رجال الحرس الذين هجموا على الصفوف الأولى من المظاهرة ورأيت في تلك اللحظة الامير عبد الاله الوصي على عرش العراق واقفاً على احدى شرفات القصر يطلق النار من مسدسه في الهواء (وقد عرفنا فيما بعد أنه كان قد فر من بغداد بعد الثورة التي عينت مكانه مجلس وصاية برئاسة الشريف شرف والد عبد الحميد شرف الذي أصبح رئيسا لوزراء الاردن عام 1979) ونتيجة لذلك تدافعت الجماهير الى الخلف وسقطتُ بين الاقدام لفترة طويلة واصبت بجروح بليغة وتعطلتُ عن المدرسة عدة اسابيع ولما عدت لها أمشي بصعوبة كان المعلم يداعبني بالقول امام زملائي هذا هو الوطني الجريح زيد حمزة وبالطبع عرفنا بعد ذلك ان الثورة في بغداد قد اخمدت من قبل القوات البريطانية وكان كلوب قائد الجيش الاردني مشاركاً في هذا الاخماد بقوة اردنية .
****
في بقية سنوات الاربعينيات وبعد ان انتهت الحرب العالمية الثانية التي كانت تشغل باحداثها ومضاعفاتها كل الناس، بدأنا ننشغل بالقضية الفلسطينية وظهر بوضوح ان القوى العالمية الكبرى تساند الصهيونية لانشاء وطن قومي لهم في فلسطين وكان انطباعنا ان في العراق جيشاً وطنياً قوياً لا يتحكم به ضباط انجليز كما هو الحال عندنا في الاردن وحين قرر العراق المشاركة في حرب 1948 دفاعاً عن عروبة فلسطين فرحنا كثيراً لكن قصة ماكو اوامر المشهورة خيبت املنا بعد وصول قوات من الجيش العراقي عبر الاردن الى فلسطين وبقيت في منطقة جنين واذكر ان الوصي على العرش العراقي الامير عبد الاله زارها وكان يرافقه من الاردن الضابط فتحي ياسين حمزة وهو ابن عمي وقد تبين لاحقاً للجميع ان تحرك تلك الجيوش كلها لا الجيش العراقي وحده كان محدداً بخطة مسبقة لا تتجاوز حدود التقسيم ولست هنا بصدد توزيع تهم الخيانة فهذا امر بات معروفاً وموثقاً منذ زمان طويل .
****
في اربعينيات القرن الماضي لم يكن في الاردن صحافة بالمعنى الحقيقي، كانت تأتينا الصحف اليومية من فلسطين والاسبوعية من مصر اما من العراق فلم يكن يصلنا شيء الى ان تعرفنا على جريدة ((الاهالي)) قادمة من بغداد بأفكار وطنية وديمقراطية لم نألفها واشتهر عندنا الاستاذ كامل الجادرجي محرر الجريدة ورئيس الحزب الوطني الديمقراطي في العراق سيما وان الاردن كان بلا احزاب وتبعاً لذلك بلا قادة سياسيين !
بعد النكبة عام 1948 وضياع فلسطين تكشفت المواقف السياسية لكل دولة عربية وعرفنا عن تهجير اليهود الى اسرائيل من بعضها كمصر والعراق واليمن وردود الفعل المتباينة عندنا فهناك من فرح بذلك واعتبر طردهم من بلادنا عقوبة لهم وانتقاما منهم ولم يكن الا القليلون يدركون انه جزء من المؤامرة الصهيونية المتفق عليها لتعزيز الوطن القومي اسرائيل !
بعد النكبة توجه اكثر الطلاب الاردنيين لاستكمال الدراسة الجامعية في مصر وكنت بينهم وعدد آخر كبير توجه الى سوريا المجاورة اما العراق فكان نصيبه العدد الأقل وكنا نعلم ان لنا بعثات للدراسة في الكلية العسكرية ببغداد مثل مازن عجلوني ونذير رشيد وزهير مطر وذلك قبل ان يبدأ الجيش بارسال بعثاته العسكرية الى بريطانيا فمثلا كان اثنان من اشقائي طياريْن عسكرييْن في سلاح الجو الملكي تدربا فيها .
في مصر التي توجهنا للدراسة فيها لم تكن علاقة الملك فاروق بمملكتنا ودية على الاطلاق وساءت اكثر بعد الحرب وجرى تبادل الاتهامات لان القائد الاعلى للقوات العربية التي دخلت فلسطين كان الملك عبدالله الذي تم تتويجه ملكاً على الاردن قبل ذلك بعامين وبعد الهزيمة في الحرب كان كل طرف يلقي اللوم على الطرف الاخر فالصحافة المصرية القت معظم اللوم على الملك عبد الله وجيشه الاردني وقيادته البريطانية كما أُلقي اللوم على الجيش العراقي ونوري السعيد والوصي على العرش الأمير عبدالاله مع ان الايام اثبتت ايضاً بعد ثورة جمال عبد الناصر عام 1952 ان الملك فاروق نفسه كان يتاجر في اثناء الحرب بالأسلحة الفاسدة التي كان يبتاعها للقوات المصرية !
عانينا نحن كطلاب في ذلك الوقت من عداء الصحافة المصرية والرأي العام المصري للعائلة الهاشمية لكن صورتنا تحسنت قليلاً حين بدأنا نشاطنا السياسي اليساري بالتعاون مع تنظيمات مصرية مثل الطليعة الوفدية وحدتّو الشيوعية .
فترة دراستي في مصر كانت ثماني سنوات نصفها الأول في عهد الملك فاروق والنصف الثاني في عهد الثورة، الأول كان بالنسبة للشعب المصري سيئاً بكل المقاييس فقد كان عهدا فاسدا بلا هوية عربية ولا انتماء وطني لذلك رأينا ان محاولة بعض الجهات العربية مؤخراً تلميع صورة الملك فاروق وتاريخ حكمه من خلال مسلسلات ظهرت في التلفزيونات العربية كانت محاولة غير بريئة واما بعض ما ظهر فيها من الديمقراطية الحزبية والحريات الصحفية المحدودة فكان الملك فيها ((مرغماً لا بطل)) حيث كان حزب الوفد برئاسة مصطفى النحاس ذا شعبية منقطعة النظير وعندما جرت الانتخابات النيابية عام 1951 نجح باكتساح رغم تدخل القصر والحكومة للتزوير وعندما حدث حريق القاهرة المدبّر في يناير عام 1952 وشكّل نقطة فاصلة في التاريخ المصري الحديث كنا في قلب الحدَث وادركنا المؤامرة الملكية على الحياة النيابية ونية الاطاحة بالحكومة الوطنية الديمقراطية في مصر وشهدنا القاهرة الجميلة تحترق امامنا وتألمنا كثيرا ونحن نرى دور السينما والمسارح والمحال الكبرى تلتهمها النيران وفي المساء وكما توقعنا اقال الملك حكومة الوفد الشرعية وبعد ذلك بشهور قليلة قامت الثورة وكان واضحاً ان زعيمها هو عبد الناصر وان محمد نجيب مجرد واجهة مؤقتة.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة