الغريب

عبد الفتاح المطلبي

في الصحيفةِ وجدتُ الإعلان، (أربعُ درجاتٍ وظيفيةٍ شاغرةٍ)، قلتُ في سري ولو أن ذلك ضربٌ من المستحيل لكن لأجربَ حظّي ولتكن واحدةً من المرّات الكثيرة التي حاولتُ فيها الحصول على عمل، كانت البنايةُ تقفُ ببرودٍ على رصيف الصالحية، بالكاد وجدتُ منفذا إلى السلم الطويل لكي أتقدم بسيرتي الذاتية إلى اللجنة التي تبُتُّ بهذا الأمر، سبقني إلى ذلك ما يقارب الأربعمئة متقدم إلى الوظيفة كلهم أفضل مني بالمؤهل وكثيرٌ منهم قد اصطحب معه تزكيةً وتوصيةً فقد لاحظتُ لمعَ الرُتبِ العسكرية الرفيعة في صالة الإنتظار وكثيرٌ من أولئك الذين يرتدون البزةَ السفاري بشاربٍ أسودٍ كثٍّ ونظراتٍ صقريةٍ بعض المتقدمين كانوا كالحملان التائهةِ وبعضهم ينطّون على السلالمِ مثل السناجب وبعضهم يشق طريقه بين الجموع مثل ثورٍ في حضيرةٍ وآخرون وأخريات مثل دجاجٍ وديكة تضج بينهم القوقأةُ وأحيانا الصياح أما أنا فبدا لي أنني كنت مثلَ نملةٍ تتحاشى أقدام جنود سليمان ، قلت في سري أين أنتَ من كل هذا يارجل ومع ذلك قررتُ أن أواصل المحاولة إمعاناً في السخريةِ مما أنا فيه وبعد أن استوعبت الأمر وإنه من المستحيل الحصول على الوظيفة هدأ روعي وانقطع سيل العرق المتصبب من جبيني وبدأت أستمتعُ بالتطلع إلى الآمال المرسومةِ على وجوه المتقدمين إلى الوظيفة، مدركا أنّ ثلاثمئة وستة وتسعين متقدما سيخيب أملهم مثلي.
جاء دوري ونوديَ على اسمي… دلفتُ إلى الغرفة التي غصّت بثلاث مناضد كبيرة بادرني الكبير:
-عليك أن تعلم أنه لايوجد لدينا فرصة عمل لا في بغداد ولا في ما حولها على مسافة مئتي كيلومتر، ومطّ شفتيه بابتسامةٍ عريضةٍّ، عقبتُ على سبيل النكتةِ:
– أقبل بوظيفة حتى لو في الجحيم…، انتبه نائب المدير العام ثم قال:
– بني هناك فرصة في مشروع بعيد نحنُ نسميه المنفى هل تريد الذهاب إلى هناك
– نعم أيها السيد وليكن.
قُبيل الساعة الثانيةَ من بعد الظهرفاز ثلاثةٌ بمواقع قريبةٍ من بغدادَ وفزتُ أنا بالجحيم بسهولة إذ لم يكن أحد من المتقدمين يرغب بالذهاب إلى هناك.
ما إن تحرك الباص الذاهب إلى الغرب حتى أخذني نومٌ عميق رأيتُني فيهِ وقد لفظتني السيارة عند مفترق طريق يؤدي إلى جحيمي الذي اخترتُ أن أنتميَ إليه بمحض إرادتي، كانت هناك سياراتٌ تقف على جانب الطريق ..حالما رأى أصحابها الحقيبتين الكبيرة والصغيرة، فهموا أنني أروم الوصولَ إلى المدينةِ الصغيرةِ التي فيها منفاي الجحيمي، فتقدموا جميعهم نحوي كلٌ يريد أن يفوز بي ولما اشتد التنافس عليّ أخرج كلُّ واحدٍ منهم قطٌّاً من مكانٍ ما وكأنهم كانوا يخفونها في طيات الملابس، راحت تلك القطط تهرّ على بعضها كما تفعل حين يشتد بينها خلافٌ على سطوح المباني وفي حدائق البيوت، تركوا القطط تهر وتتصايح حتى إنسحب بعضها وصرخَ هرٌّ على آخر ذلك الصراخ المعروف ثم اشتبك اثنان منها وكأن بينهما قطعة لحم وشحم، يستميت كل واحدٍ منهما للحصول عليها، هدأت الأمور وانسحب القط الخاسر، تملكتني الدهشة وعقدتْ لساني، تقدم أحد السائقين، قفز القط الرابح إلى صدره واختفى في مكانٍ ما من كيانه بينما راحتِ القطط الأخرى إلى أصحابها واختفت في ملابسهم أو هكذا ظننت،اتجه نحوي السائق وهو يؤشر إلى السيارة التي تخصه وكأن لم يكن من شيءٍ قد حصل، نظرتُ إلى الباقين فوجدت أنهم قد هدأوا وراحو يتبادلون الحديث بودٍّ فيما بينهم تحت ظلال شجرة كالبتوز، ركبتُ السيارة وانطلقت بي إلى المدينة التي تشبه قريةً كبيرة وأنا أفكّر بما رأيت وما سمعت تملكتني الرغبةُ في أن أسأل السائق عن حقيقة ما رأيت لكنني أحجمتُ في اللحظةِ الأخيرة ورأيتُ أنه شأنهم وأن علي أن أتصرف بحذر فربما كنت واهما وعلى أيةِ حال فأنا لا أعرف طبائع الناس في هذا الوادي البعيد وعليَّ أن آخذ بنصيحةِ أمي التي تصبّها في أذني كلما ذهبتُ في سفَرٍ( يا غريب كنْ أديب) .،كان كلّ شيءٍ طبيعياً ما عدا ما جرى بين قطط السائقين، توقفت بي السيارة وسط المدينة أمام باب الفندق الوحيد وأنا أفكر، أليس من العجيب أن يصطحب السائقون قططا وهم يعملون ـ صعدتُ السلم المؤدي إلى إدارة الفندق،كان صاحبه يجلس على كرسيّ كبير إذ أنه كان بدينا وحالما لمحني حدث شيءٌ لا يُصدقُ، بلمح البصر أمسك الرجل البدين بحبلٍ وسحبه نحو المنضدة وإذا بثورٍ بقرنين معقوفين يقفُ بجانبهِ، أنصتّ إلى صوته فكان خوارا عميقا لا شك فيه،عيناهُ لامعنىً في نظراتهما سوى انطباعٍ تولد لدي مفاده إحذر أن تتسبب في هيجاني ودون ترحيب قال الرجل من وراء رأس الثور: عشرة دنانير أجرة السرير فوافقت وأنا أنظر بعيني الثور الذي اختفى بعد موافقتي ولا أعلم كيف حدث ذلك رجّحتُ أن الوهمَ قد تلبسني لكنني تذكرت قطط السائقين، عاد صاحبُ الفندق البدين إلى كرسيه الكبيروسلّمني مفتاح الغرفة، رحتُ أنظرُ في الفراغ الذي حول المنضدةِ لعلّي أجدُ أثرا للثور ولكن لم أفلح وبعد دقيقة من حلولي بالغرفة اقتحم علي أحدهم الغرفةَ وحين أردت إبداء استنكاري أخرج من مكانٍ ما في كيانه كلباً دلق لسانه وراح يلهث و يبصبصُ بذَنَبِهِ مثل أي كلب راح يتملقني ويستدر رضاي عنه كما تفعل الكلاب الأليفة، كان ذلك عامل الفندق الذي حمل حقائبي إلى الغرفة، أطفأ تذلل الكلب غضبي ومددتُ يدي إلى جيب بنطالي، أخرجتُ دينارا وأعطيته إلى صاحب الكلب وبين انشغالي بأفكاري اختفى الكلب حالما رأى صاحبهُ الدينار ليفسحَ المجالَ إلى الرجل كي يتناول ما أعطيته، لم أعد أندهش مما يجري وتأكدتُ أن في الأمر سرّا لا أعرفه…. في الشارع رأيت رجلا يلازمه دبٌ وهو يسير فابتسمت له وحالما فعلتُ ذلك اختفى الدب و أقبل عليَ الرجلُ وهو يقلد مشية دبّهِ …. وهكذا مرت الأيام وكنت أرى الناس وهم يستخرجون حيواناتهم من مكان ما في حيزهم ثم يختفي بعد الفراغ من الحديث فيما بينهم تنوعت حيوانات الناس في الشارع والسوق وفي عموم المدينة بين عصافير وديَّكةٍ وحمام وقطط وثعالب وضباع، الحق يقال لم أرَ أسداً لكنني رأيت قرودا وببغاوات وعقبان وأفاعيَ وعقارب تحضر بين يدي الناس في مواقف معينة لتختفي بعد مرور الموقف، كانوا جميعا ينظرون إلي باندهاش وأنا أسير بينهم دون حيوانٍ أحمله أو استخرجه من مكانٍ ما في كياني وعندما تجنبني الجميع توسلتُ أحدهم مرةً أستوضحُ منه الأمر وبعد تردد قال : أيها الغريب من المحزن والمريب أن تعيش بيننا وليسَ لك حيوان إن ذلك مدعاة للريبة أيها السيد ثم تركني حائرا ويمم شطرَ جماعةٍ في مدخل السوق قد تسوروا خروفا للبيع وقد صاحبَ كلّا منهم كلبٌ ينبح نباحا عالياً وهم ساكتون، انسحبت الكلاب وأصحابها وبقيَ كلبان واحدٌ للبائعِ والآخر للشاري وحالما أخرج الشاري نقوده وبدأ عدّها اختفى الكلبان وتمت الصفقة بنجاح، …. بدأتُ أفكر جديا بالطريقة التي تمكنني من حمل حيواني الذي يصلح لنجدتي وقت الحاجة ولم أقرر بعد أيّ حيوانٍ سوف يكون ورحت أتعامل معهم كل من خلال حيوانه الذي يخفيه ولكن بحذرٍ دائم ما دمتُ لم أحصل على حيواني بعد، قال أحدُهم وهو يُداعبُ نمراً صغيراً خرج من كُمّه سوفَ تعتاد الأمر وسوف تكون واحداً منّا اصبر أربعين يوماً وستجد في داخلك حيوانكَ الأثير ما دمتَ هنا في هذه المدينة في هذه الأثناء قفز نمر الرجل في حضني ففزعت واستيقظتُ من نومي الثقيل كان الباص الذي أستقله قد انحرف عن الطريق فوقعت حقيبتي الصغيرة في حضني وكنت أظنها ذلك النمر في كم الرجل الذي يكلمني في الحلم..

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة