كتاب “الصباح الجديد” عن تأريخ لم يطوَ(الدكتاتور فنانا) لرياض رمزي
الحلقة 6
هل يمكنك أن تقرأ طوال خمسين سنة، وتعبّ مئات الروايات والمخطوطات ودواوين الشعر وكتب علم الاجتماع والدراسات المستقبلية، وأن تصبر على إكمال قراءة مجلد موبي ديك العقد والمتشابك، وتفكك خطب صدام حسين ومؤلفات اسحاق دويتشر وبرزان التكريتي والمركيز دي ساد ونيتشة وأمهات كتب التراث، بثلاث لغات حية، العربية والإنكيزية والروسية ثم تؤلف كتابا واحدا لا تتجاوز صفحاته على المائة والأربعين صفحة عن شخصية صدام حسين هي خلاصة كل ما قرأتَ وتأملتَ، إذ يتدحرج الفنان الدكتاتور، أو الدكتاتور الذي تفنن في تدمير كل من ألقاه حظه العاثر في طريقه، وتجبر على الله ومخلوقاته، وانتهى مثل هذه الأيام، قبل أربعة عشر عاما، الى خارج المعادلة بعد أن تسببت حماقاته في كل ما حل بالعراق من كوارث.
يقول الكاتب رياض رمزي في مقدمة كتابه (الدكتاتور فنانا)
بالرغم من أن العراقيين، على عكس الشعوب الأخرى، لا يعدون ظاهرة العنف حالة طارئة في تأريخهم، فأنهم مع اطراد الكوارث المفجعة كثيراً ما يتساءلون : أي لعنة خيمت عليهم ؟ وأي جريمة اقترفوها كي تسير الحياة السياسية لديهم يدا بيد مع القتل؟ما هو سبب هذه التراجيديا التي بدأت تقود الى اعتقاد سطحي لدى البعض يتمثل في تسمية مبسطة يطلق عليها عادة “سوء الطالع ” هل هو التأريخ الطويل للقتل السياسي أم أرواح شريرة سكنت هذه الأرض؟
محاولة تفكيك الظنون المبكرة للطفل الذي صار دكتاتوراً وقاتلاً بامتياز.. حرب إيران الكارثية بالنسبة لصدام.. ذكريات مسلية
يفتخر السكان بالانتماء الى مدينة ما بسبب الألفة التي تثيرها فيهم، والتنوع: العمل، السكني، المدارس الجيدة، الرصيف الأمن، وسائط النقل المؤتمنة، أمكنة الاسترخاء، متنزهات، خيارات ثقافية: مسرح، سينما، مكتبة.
تكتسب المدن هويتها من موقع طبيعي او من معلم تأريخي ينعمان على ساكنيها بعادات راسخة تمدهم بقوة فكرية : القاهرة من النيل بيروت من البحر اسطنبول من جوامعها ،فاس من مسجدها الجامع واسواقها الشهيرة، بغداد من نهر دجلة. انها أماكن لا ترى لشدة اعتيادنا وجودها ما ان ينفصل السكان عن معلمهم التاريخي او الطبيعي حتى تنتابهم حالة شبيهة بوضع رجل تعرض للصلع فجأة فبات يتوقف عند كل منعطف، كي يتعرف الى حالة راسه الجديدة ، وليتأكد ان نهاية شعره المؤلمة لا عودة عنها . يؤدي حرمان المواطن ، في مدينة نهرية من رؤية كورنيش النهر ، بسبب وجود رمز سطوة الدولة على الجانب الاخر الى اصابته بمرض فقدان المألوف ، وأعراضه : شرود الفكر والوحشة فيصبح مثل شخص ترك حذاءه المطاطي ، وانتعل خفين من الحديد . ان المدينة التي صاغت حالتها الذهنية ، من هذا المعلم ، ومن فولكلورها ، ومن خيالها ومن طريقة تمتعها بوقتها ، تحتاج الى فترة نقاهة طويلة تتوارى فيها ذكريتها عن النزهات النهرية ، ومن تناول منتجات النهر والسير الحر بلا قيود ” فالمقاهي المنتشرة في بغداد على امتداد نهر دجلة في شارع ابو نؤاس ، الذي هو من اشهر مراكز الترفيه في الشرق الاوسط المتخصصة بطبق السمك المسكوف ( الشبوط المشوي المشهور ) قد اغلقت ، وظهر مكانها سياج من الاشجار الكثيفة وسريعة النمو التي تحجب كليا رؤوس النهر من الشارع ” ( بعد اربعة عقود من المحنة ….، مصدر سابق ).
هنالك حالات اشرف فيها الافراد على الجنون او أصيبوا به ، بعد تجفيف الاهوار لأنهم فقدوا الرؤية إشراقة الشمس على الماء ، وليس اليابسة ، ولأنهم ايضا حرموا من الاستواء الذي يؤمنه الماء / الصورة / الهوية . لم يكن الامر لديهم غير طرد للماء الذي فقد نفوذا استمر الاف السنين على الارض ، فبدت عند ظهورها ، رخوة ومشققة . كانوا يرمون اشياء على الماء ، فيبتلعها . اما الان فان كل شيء مائل امامهم يذكرهم بهزيمة الماء.
المدن لا تدافع عن معلمها ، عن نهرها او جامعها الكبير . المعلم هو الذي يحمي المدينة . متى غاب حاميها يجب ان تبحث عن حام اخر ، عندما ينخفض منسوب المياه في النهر ، او يمنع سكان المدينة من اجراء التمرين الازلي بالتنزه جواره . ليس هنالك ما يضاهي رؤية شمس ايام الربيع وهو تنعكس متذبذبة على امواج دجلة …. انها تكوينات فكرية يسترجعها المرء للحفاظ على توازنه الموروث من اعراق قديمة سكنت هذه الارض ، فأبدعت ادبا دخل فيه الماء كعنصر اساسي . ماذا لو منعت العاقر من ان تطلق على الماء قاربها الورقي الذي يحمل رسالة هي شمعة نذرتها لوليها الصالح لجلو رحمها ، ورتق شقوقه او حل كل التباسات قدرها ؟ ان منع النهر عنها لو وقع عليها اقوى من الكفر . انه الم يشبه وقر الاذنين لا يتسلم الانسان به في البداية ببساطة ،يرفع صوته صارخا كي يسمعه الاخرون ، وعندما لا يجدي ذلك نفعا يطلب من كل من يلقاه رفع عقيرته ، لا يمكن أمراء ان يصبر طويلا على لسع النار . انه يجهد لإطفائها بشتى الوسائل وعندما يستسلم للحرفة من جديد : القبول بالعيش مع عضو تألف ( غياب الماء ) سيتشوش دماغه ويصيبه مس ان لم يتسلم قابلا بالسيء تفاديا للأسوأ خافضا سقف طلباته للحصول على طمأنينة لعقله على غرار ما حدث لسكان الاهوار بعد تجفيفها اذا اصيبوا بأعراض مناخ سوداوي من كثرة رؤيتهم لأنفسهم في الاحلام ، وهم يقودون زوارقهم في الوحل.
اتخذت مدينة بغداد شكلها الحالي في زمن الحرب العراقية الايرانية . ففي الوقت الذي كان الاطفال يموتون جوعا بسبب الحصار ، كان هو منهمكا ببناء قصوره وجامعه العظيم .
العمارة ، بحسب قول هتلر ليست الرسائل من حجر . فما هي الرسالة ؟ ولماذا اعمار بغداد ؟
المدن العظيمة لاتصنع بل تولد . لا توحي المدن الجديدة بعظمة المدن، الافراد الذين اسهموا في بنائها ، بل بسطوة من بناها ، مثل شخص دخل على زوجته بقوة جعلها تتذكر عنف فقدانها بكارتها الاولى . انه تغير لهيئتها القديمة ، كي لا تثير ذكريات مره لديه ، وليقتنع انها ليست تلك المدينة التي عانى فيها الاذلال ، مثل شخص يموت له عزيزا، فيلجأ الى هدم بيته ، واعادة بنائه كي يقتنع ان الفقيد لم يكن يسكن هنا .
ما هو الهدف من بناء قصوره الفخمة ؟ انه يريد ان يبين ليس عظمة الفرد الذي قام بالبناء ، بل سطوته هو ، كوسيلة لإضعاف الفرد امام شيوخ البناء . انها لا تشعر الفرد بفخر انتمائه الى مجتمع انجز هذا البناء ، لكن للتذكير بقوة الباني ، كرمز لشيء لا يقاوم لفرد منتصر على الدوام .
ليست هناك مبان عامة بلا وظائف. تندمج المباني في النسيج العام للبلد عندما تؤدي خدمات عامة تشعر الفرد بنوع من الزهور نحوها . وهذه القصور لا تمارس وظائف . انها غير مأهولة بأفراد يشعرون بالألفة معها . القصور لا تقدم خدمة للفرد ، انه هو من يقدم الخدمة لها . فالنساء اللواتي كن على سبيل المثال يعتصمن فيها ، لحمايتها من قصف جوي محتمل ،كن يحرسنها بدمائهن ، بوصفها المال الاخير . القصور تغري الاعداء، ليس لان هناك خدمة تؤدى فيها ، بل لان فردا بناها ، وجعلها ذات اهمية منذ سكن فيها عندما اطلقت تسمية قصور الشعب،كان يقصد بذلك انها أصبحت مقاما ومزارا. لولي القصور ملكية شخصية ، لا تنفصل عن مالكها ، تعطيه المنعة المتعة والعزة . وتشعر الناظرين اليها ، من وراء الاسوار بصغر الحجم .
لم يكن مسجده الضخم الذي يتم تشيده ، كأكبر مسجد في العالم الا محاولة لتحويل بغداد الى اسطنبول اخرى . فهي ليست مدينة ، معلمها التاريخي النهر . انها مدينة الجامع العظيم .
يرمز تعدد طبقات بناء قصوره ، والذي يضاهي بعضه شكل الزقورة في البناء الى استحالة الوصول اليه . فالأسيجة العالية المحيطة بالقصور تقوم بدور الحماية . اما في الداخل فالبناء اشبه بملف حي لمعرفة قدرته في ادخال الرعب الى قلوب الزوار . انها عبارات حافلة بالدلالات ، كي يتذكر الحضور ما لا يجب نسيانه : نوافذ عالية ، غرف واسعة تنتهي بسقوف بعيدة مقببة ، تشي بالانكشاف ، بعدم وجود ملاذ امن . اما الزخارف غير متقشفة لا يتجلى فيها ذوق فني لافت . انها توحي بتعقيد وصعوبة العالم المحيط ، لتشويش التركيز ، وجعل الاذهان اكثر انصياعا لدوافع الاثارة الخارجية ، فلا يعود يخضع الا لسلطان هواه . رخام من الطراز الامبراطوري ، مع خلطة شاذة من اشجار البلوط . غياب الزجاج الشفاف . ارضيات مزدانة بتكاوين هندسية ذات الوان باهتة ، تخدم لونا واحدا نشيطا هو الاحمر ، المحدد لمسار الزخارف كلها .
2- مدخل الى فهم مغامرة البطل
أولا : سيرة البطل الذاتية
بدأ بحياة طفل له ، عندما يكبر وحاز اعلى سلطة ، سيرتان ذاتيتان ، واحدة رسمية واخرى شعبية . تتفق السيرتان اتفاقا متفاوتا على ما يأتي :
ان الطفل مر بمرحلة صعبة ، لكن الاثنين تختلفان في الدرجة : تقول الاولى بيتمه والثانية بولادته سفاحا . ليس هذا هو المهم ، فالسيرتان تتفقان على ان امه لم تكن قديسة ، وزوج امه لم يكن يستقبله بهدايا تجعل الطفل ينظم الى ذكراهما بسرور .
الثابت ان الطفل يعاني مثلبة عرضته للازدراء ، والصدود في اقل حال . وجه بنظرات تخلو من المودة ، وبعبارات تكفي لتقويض ثقته بنفسه . انه الان بسن لم يكن قادرا على التحكم بالألم . انه بحاجة للمحافظة على توازنه من اجل حماية نفسه . يعتزل في البيت لتخفيف التوتر مثل شجرة الهبتها حرارة النهار فباتت بحاجة الى مد جذورها عميقا للوصول الى مجرى المياه . لكنه لم يكن يجد في البيت غير زوج ام قاس تنبئ صورته المعروفة عن شخص ليس ممكنا الاستئناس به . له عينان مهددتان ركبتا على وجه لم تقصر اشعة الشمس في لفحه ….
اما امه المتخلية عنه فلها وجه امرأة قادرة على تلقي شتى الخسارات ماعدا مرارة غياب وجود رجل بجانبها ، طاردة بذلك كل نوبات الشعور بالذنب الذي كثيرا مايفارق جميع النساء اللواتي يتخلين عن اولادهن لمصلحة ملذات دنيوية زائلة .
انه طفل مرتعب غدا اكبر عمرا مما هو عليه . يتحول بؤسه الروحي الى ما يشبه طفحا جلديا يترك الوجه مدورا ، وهذا ما يجعله مميزا من الاخرين . ان طفلا منشغلا باستعادة عشرات التفاصيل المؤلمة سيعاني ما تلحقه به تلك التفاصيل من استثاره . فهو يكاد يكون قادرا على استعادة ليس تفصيلات الاذى ،انما الحالات الذهنية المرافقة لتلك التفاصيل . ومن غير ان يتعرض اي جزء الى الاضمحلال او الذبول. تحرم التوترات الداخلية، من هذا انوع ، من فترات انفراج تستعيد من خلالها شخصيته وضعها الطبيعي . ليس الفقر ما يعانيه ( لم يكن لديه من وقت لاهتمام بكسب قوته ، فهو يسعى الى اسكات انتقام / على درجة من الحيوية فيه ، جعل لياليه طويلة ، اذ في الوقت الذي ينام الغافلون ، هناك من يحمل انتقاماً جعله يشعر بثقل وجوده الشخصي كمن يتذكر فاجعة حدثت له فامتنع عليه النوم ) بل كونه مختلفا عن الاخرين بسبب وشم في الجبهة ، سيحوله الى انتقام رمزي عندما يشب ويكبر بوشم جباه اعدائه ) مثل امرأة مات زوجها ، فأصبحت تسمى ارملة لخفض وتيرة الاحترام لها . السؤال الذي يردده هذا الطفل على نفسه هو : ايلازمني هذا البؤس طويلا ؟ انه الشعور بالعجز عن رد الاذى .تتجلى محنة البطل سنتياغو في ” الشيخ والبحر ” لقد امضى 84 يوما من دون ان يصطاد سمكة . ” هل انتهيت ؟” هكذا كان يسأل نفسه اعدادا متقنا لمواجهة قدره ام يجلس على الشاطئ متأملا في مرارات قلبه الحزين ؟
يحاول سنتياغو جاهدا الثبات على قدميه ، مثل مقاتل يركز رمحه في يديه وهو يستعد لهجومه المرتقب على قلعة اعدائه ، فيقرر القيام بانجاز ما : الابحار الى الجزء الاعمق من الخليج ليس لاصطياد سمكة ، بل للبحث عن رجولته واثبات انه غير عاجز ، بل موجود .
العجز هو مصدر الاضطرابات العقلية . يربط فرويد العصاب بالصدمة الجنسية . لكن قد يصاب المرء بصدمة تعبيرية يمسي معها غير قادر على اخراج مافي داخله الى العلن في ظل غياب علاقات ودية او رفيق حسن . تنتج التوترات الداخلية اختناقا ساما يشل قدرات الفرد . يحاول المبتلى ، وقد ركبه هوس اسكات توتراته الداخلية ، التخلص من عبئها المستبد ، انه مثل سانتياغو لا يمكنه الاحتفاظ بآلامه وحده ، بل يسعى الى اعادة ترتيب عالمه الداخلي بالتخلص من العجز بتوجيهه نحو موضوع معين . عليه ان يجد محاورا داخليا يعيد من طريقة ترميم شظايا طفولته التالفة .
ان طفلاً محروما من حياة اجتماعيا نشطة ، لا يشعر بسلام مع الاخرين ، بحاجة الى الانخراط في فعل خارجي يقصي التوترات او ينسيه اياها في الاقل . يطور الاطفال في حالات الحصار رغبات مبكرة ، ادماناً يستنزف مزاجهم الانفعالي فيتحول الى مايشبه درعا تصد عدوانية العالم الخارجي .
لدى سكان المناطق المضيئة والمفتوحة ، التي تحفل بمساحات غاية في الاتساع ، ممن يستقبلون اشراقة النهار وهم على بعد قريب من الوان الطبيعة الاساسية ، وفي مدى شاسع ينعم بالسكينة ، كمية وافرة من الرؤى تنعكس في اشراقات مزاجية تجعل عقولهم ملحقة بخيالهم .فاصفرار الازهار البرية وبياض الزنابق يختلطان بالعبير الذي يطيل المكوث في الهواء ، اصوات قبرات وطيور تتأهب للغناء او تطير على مقربة من الناس تجعل المرء لايرى غير رحابة الارض: بساتين ، حقول ، وغيضات ، ارض مكشوفه تتعامد الشمس عليها ، وما ان تتوارى حتى تأتي الرياح او الامطار بوابل عذب تحجت توهجات الغروب . انها امكنة تظل الشمس فيها في حالة اشراق دائم ، تعطي ساكنيها انطباعات اولى نفية . لاينتظر المرء انتهاء اليوم فيها لان الوقت متوقف هناك ، لايعكر مجال الرؤية دخيل مايجعل المتأمل يقظاً يتطلع حوله ، فيتذكر قرب افول النهار . الوان النهار شبيهه بمقذوفات نارية تتحول فيها الوان الشمس من اللون البرتقالي في الصباح الى لون متوهج اشبه بحديد ذائب في منتصف النهار ، ثم الى لون حمرة النحاس لدى الغروب . وهي الوان يغدو معها المرء مثل واد مفتوح ، وتجعل العقل غائبا لمصلحة الحواس . وهي حالة سبق ان وصفها لورنس العرب عندما كان يجلس في الصحراء ” جلسة اجلو بها حواسي “. وهي ايضاً الحالة نفسها التي كان يرنو كلود مونيه للوصول اليها بالبقاء طويلاً تحت اشعة الشمس ، التي يعود منها متثاقلاَ بعد ساعات طويلة من الرسم ، وكأنه عاد من وليمة باذخة : ” ماذا ياسيد مونيه ؟”، ” اه لقد شبت من الخضرة ” .
لا شيء يعتد به هنا غير خيال المرء ، لان العالم كله ليس عناصره الاساسية : ماء وسماء وهواء . تجعل النهايات الممتدة الماء منخرطاً في جو الاحلام ، وكأنه تناول حبوباً لاستثاره تجعله يقيم نماذج ويخلق اشخاصا خياليين يمدد رحلته معهم يوميا ً،عندما لايجد حافزاً للرجوع الى البيت . هذا هو الريف الذي نشأ فيه . فأيام تأتلم التي يطيل المرء وقت مكوثه فيها ستجعله يستدعي مخيلته كي تخرج كل مالديها من صور واوهام الى العلن حية ،مفصلة ، دافئة ، مغلفة بالواقع . لا يخلق الفرد ، وهو على مقربة من الطبيعة ، عالماً خيالياً ، بل يعيد تكوين عالمه الفعلي بنود عمل خيالية ، واضعة عقله في تصرفها ، فلا يعود يرى شيئاً الا خياله . انه وضع شبيه بأحوال غياب وحضور ، صحو وسكر ، فناء وبقاء. انه نوع من الوحام : عدم شعور الشخص بحقيقة مقامه ، بل بما تتوهمه نفسه .
يكون الفرد عالمه المتخيل يبعث لشكل طفولته المعيشة . فمن لديه طفوله مرة تعرض فيها الى اذى فاحش ، يتجه خياله نحو خلق بطل متمرس في الانتقام .
كان عليه ان يجد عالماً يكون واثقاً بنجاحه فيه . عالم لايجد فيه تلك الفضفاضات التي صيرته اكثر اكتئاباً . لم يكن ثمة من مستحق لبلوغ ذلك غير اجتياز ذلك الحاجز المبارك بين الحلم واليقظة ، ما يفعل السورياليون عادة . وهو حاجز ما ان يجتازه المرء حتى يجد ان كل مافيه حر وجميل ، ولايحتاج فيه الى رفيق ، فحسبه نفسه يروي لها حكاياته ويصدق هذه الحكايات . انها حالة الحالم السائر على حافة وهو يتطلبه نحو هدف ما ، مثل سرب من طيور عطشى تبحث عن نبع ماء قريب ، لكنه غير موجود . عليه ان يجد عالما اخر يجد نفساً غير نفسه ، واماً غير امه . يجد فيه والده الغائب بدلاً من زوج امه المهدد دوماً . يحرره هذا العالم من عذابه اليومي ولا يرى فيه تلك المأخذ لانه مأهول بوافدين جدد لا يعرفونه ولا تربطه بهم صلة قديمة . يبتدع الشخص ، من خلال انعزاله ، محادثات غامضة مع النفس ،بطلاً على غرار تلك الشعوب التي انجبت بطلاً مخلصاً وعد مريديه بالخلاص وبالمضي بهم الى مملكة الايمان ، عندما تعرضت لاضطهاد ، ومضايقات ومطاردات شعوب واقوام اخر معادية .
لقد ايقظت العزلة لديه شعوراً بعدم الانتماء الى مجموعة تحتضنه ، ويذيع اسراره وسط افرادها . فتكتمه على معاناته جعله تواقاً الى الانعزال عنها . لكن ، كيلا تكون المجموعة معادية له ، عليه قيادتها والسيطرة عليها ، حتى لا يبدر منها اي تهديد له . من هنا كان عليه (عندما وصل اعلى سلطة في البلاد ) ان يختار الذين يقودهم من ذلك الصنف الذي تضطره معرفتهم بعض التفاصيل عنه ، الى مراجعة سلوكهم باستمرار خشية امتلاكهم معرفة من ذلك النوع ، يريد ان يحيا بدونها في امان ، يدافع الشخص عن عالمه وبطلع بشجاعة غير مألوفة ، لانه، اي البطل ، قد انعم عليه بسلام عقلي ، وامده بالقوة من خلال استحسان كلي له في منعزل عن ذلك التوبيخ ذي التوريات التي نغصت عليه رقاده ، واخمدت فيه تلك المرارات المدفونة لديه في الظلام .، بدخوله المملكة الجديدة سيستعيد النوم شكله الصحيح . وكي ينعم بهناء اكبر من غير ان يلهث ، ولسانه متدل من كثرة مطارديه ، لا يفعل الا الرضوخ لأوامر بطله من اجل ان يتجاوز تلك العبارة التي كان يسمعها تأتي من اشد الغربان سواداً ” من يتعرض للهوان يستنجد بأبيه ” .