رواية عبده خال (ترمي بشرر) .. تنوعات التأويل وجماليات المكشوف

القسم ما قبل الأخير
ناجح المعموري

عيسى/ أسامة/ طارق/ ثلاثة من عشرات الفتيان في حي الحفرة الذي يمثل قاعاً في الحياة الاجتماعية وأسم الحي ينطوي على دلالة كاشفة وواضحة وصارت النية أن تحوز على أسم جهنم في نهاية الرواية، يشب الفتيان وراء الفتيات وهذا ما حصل مع طارق وأسامة والصدفة جعلت الاثنين يعشقان تهاني التي قتلها الأب غسلاً للعار ولم يعلن عن موتها إلاّ بعد عشرين عاماً وقبل موته بزمن قصير. الحفرة مكان تعلم الفتيان مطاردة الفتيات وشرب الخمور وشيوع اللواطة، والشاب القوي هو المفترس، لا رادع لكل الانحرافات التي يفترض أن لا تكون بسبب نوعية الثقافة البدوية وتعاطي الطقوس الدينية. القوي وحده القادر على حماية ظهره من الوطء والاغتصاب. وكان طارق واحداً من هؤلاء الذين صالوا وجالوا في الحي وراء الفتيان والفتيات وكانت تهاني آخر فتاة تعلق بها وفي فورة الاثنين اغتصبها وعلى صوت اللذة عرف الأهل وقبل أن يدخلوا الى غرفتها هرب طارق متسللاً من النافذة العليا. لكن أسامة ظل العمر كله يحمل في ذاكرته ابنة خالته. وتجدد الوجد بعد الإعلان عن مقتلها وسفره مع خالته الى قرية زوجها وإقامة مناحة على قبر تهاني، وظل طارق سراً خفياً، لم تعلن عنه تهاني على الرغم من كل أنواع التعذيب وخضع الاثنان طارق وأسامة لضغوط نفسية، لأن طارق هو الذي افتضها وهرب ولم تعلن تهاني عنه وظل كل عمره ملاحقاً بالجريمة والرذيلة. أما أسامة، فهو عاشق من طرف واحد وظل عمره يستحضر صورتها ويتراكم حنين في أعماقه كاد أن يسلمه للجنون (منذ أن عاد من قرية صالح الخبيري وهو يجمع أنواع البذور القادرة على مقاومة الجفاف، والنهوض باخضرار كثيف، ليزرعها على غير قبر تهاني. هذا الهيام بزراعة الأشجار على القبور هي محاكاة لما فعله كمال أبو عيضة على قبر حبيبته سميرة، فبعد موتها تفرغ كمال لزيارتها عصراً، وسقي الأشجار والأعشاب التي تحف بقبرها. أسامة مغرم بتقليد خطوات العشاق وسيرتهم/ ص338
عاش أسامة على هذا الحلم المتشظي وتمنى قضاء بقية عمره هناك ويتخلص من السيد وينظف روحه من تدنساتها وسقوطه اليومي في الرذيلة والعار والقوادة التي بها ومن خلالها كرس دوره في القصر وصارت له حضوة بين الشباب الموجودين لتقديم خدمات كثيرة ومتنوعة. ثلاثة أصدقاء، عاشوا معاً في حي الحفرة وكان عيسى الرديني أولهم في دخول القصر ولأنه يعرفهما جيداً فيما له علاقة مع الآخر، جاء بهما الى القصر وكانا أكثر حماساً وعبودية للسيد، وتحول طارق لحظة دخوله القصر الى مجرم محترف وأوكلت له غرفة التأديب وقد مارس هذا الدور مع عيسى الرديني قبل قتله بلحظات. (ومن غير مقدمات أطلق عيارين ناريين صوب جسده العاري، أحدهما في معدته، والعيار القاتل نهش صدره وأخترق ظهره، فسقط في مكانه من غير حراك………….. وفي حركة هائلة كانت سيارة الإسعاف تقل جسدين أحداهما جثة هامدة والأخرى تتلوى من ألمها ومع ارتفاع صوت عربة الإسعاف، واختراقها للشارع الرئيسي الفاصل ما بين الجنة والنار كانت عينا حمدان الغبيني زاهدتان من التطلع للجثمان المسجى بجواره، متلهفتان لرؤية بيوت وأزقة حارة جهنم التي عبرتها سيارة الإسعاف بسرعة قصوى، وكأنها تحاول التخلص من عبقها/ ص345
هذه نهاية عيسى الرديني الذي أنقذ السيد من الغرق وببطولة اجتماعية وعفة نفس (رفض أن يمد يده، وظل صامتاً ينقل وجهه بين الصبية وأبيها، وكلما استحثه على أخذ النقود، يتراجع للخلف حتى استشعر أنه قادر على إطلاق قدميه، ليركض على امتداد اللسان الخرساني، ويقذف بنفسه في المياه العميقة، وصوت السيد الكبير يصيح به:
– عد الى هنا متى شئت.
هذا الغريق هو السيد نفسه الذي عبث بحياتنا، وليت عيسى تركه يغرق لربما نجونا من هذا القدر الذي كتبناه/ ص279/ رسالة السيد الاجتماعية/ الاقتصادية/ السياسية أكثر أهمية لديه من بطولة عيسى المنقذ له، هو يتذكره جيداً ويتذكر ما قاله السيد الكبير له:
-عيسى أخوك من الآن، وأنا عقدت هذه الأخوة، فأن نقضتها نقضت برك لي … فهمت. هز الأبن رأسه مرحباً بقول أبيه فانتفض عيسى من رقدته، مبدياً مقدرته على السير، وقبل أن يغادر أمر السيد الكبير ابنيه: -عانقا أخوكما. فتعانقوا، وانعطف عيسى ليد السيد يقبلها (قال لي لم أستوعب كيف فعلت هذه الحركة، وأنا الذي لم أقبل يد أبي) /ص283.
ما يحصل في الحي والقصر من علاقات جديدة، كان للسيد دور بارز فيما هو حاصل من أساطير وغرائبيات في الحياة، أساطير سجلت موات وولادة ثقافة جديدة، لا علاقة لها بالتكونات الأولى للأفراد. وكان السيد وقصره بعيدان تماماً انتاج الهارب من الجوع نحو الحلم. القصر مكان مثير جداً لمن دخل اليه، من الشباب والفتيات، شباب حي الحفرة أو الملاحة، أو قاع جهنم، أو النار وكلها مسميات للعذاب ولحياة الناس، لكن الهارب من الجوع الى الجنة وبعد أيام قليلة يعاود الحلم مرة ثانية، حلم الحرية والخلاص من القصر والعودة الى الحي. لكن هذه الحرية غير مسموح بها لمن دخل القصر /المؤسسة التي تخضع رجالها لأنظمة في غاية السرية والتلصص والمتابعة ومعرفة ما يقوم به الرجال، إغراءات مقابل العبودية والتعايش مع الرذيلة وقبولها والاكتفاء بها.
القصر حلم الخارج وأمنية الجميع بدخوله، لكن ذلك يصير كابوساً يقبل به الشباب لسنوات طويلة وهم يمارسون الرذائل في خدمة السيد والذي يبدو واقعياً في بلدان النفط وهو سلطة متعالية. مثلما هو أسطورة ولا معقول، لأن المؤسسات الأمنية الكبرى تؤسس مثل هذه البؤر/ القصر لتحقيق أهداف خفية لا يدركها الإنسان ولا يعرف وظائفها الداخلية العميقة وما يطفو فوق السطح ليس هو الحقيقي.
ولعل أهم ما يتعلمه الداخل الى الجنة هو الابتعاد عن السياسة وهذا ما تسعى إليه المؤسسة العليا، وتوسيع مساحة السقوط الاجتماعي والأخلاقي بين الشباب والفتيات وهذا أخطر بكثير لأن سقوط الشاب له ذيول اجتماعية تتسع نحو عائلته الواسعة والفتاة كذلك. والمجتمع البدوي يعمل بمثل هذه الثقافة، لأنه –المجتمع-غير قادر على التحرر من ثقافته انقلابياً وإنما ببطء شديد، وتبقى ثقافة البداوة حاضرة ولن تغادر المدينة أبداً، لأن البداوة تغذي أصولها في المدن والحواضر.
وللقصر وظائف غير المتعة وتسقيط الشباب، ولعلها الأهم هو دوره الاقتصادي، صعود قيمة الأسهم وانخفاضها وانهيارها هذا ما أدى بعيسى الرديني للجنون والتعري والقتل ونشرت الصحافة خير موتة محرفاً ومشوهاً، مما يؤكد على أن الذي حصل في الحكايات هو تأسيس مدروس داخل قصر السيد ولم يكن نتاجاً لحاجة السيد للمتعة. هذا القصر تغيرت فيه السيادات وحازت عليها البغايا مثل مرام وينتهي رجالات القصر الى مخنثين بعد عطب فحولتهم ولأن السيد معطوب كان يعاقب من يريد معاقبتهم ببتر ذكوراتهم، لأن البدوي لا يعرف أكثر قيمة من الذكورة والفحولة التي أدخلها في قاموسه اليومي التداولي. وبعد ذلك يطردهم الى الشارع معطلين اجتماعياً/ ونفسياً، وهذا ما حصل كثيراً مع الفتيات والصبايا. وملحق المعلومات والفوتوغراف كاشفة عن الذي كان يحصل في القصر بوصفه عملاً خاضعاً لمؤسسة سرية، تخطط بنحو دقيق للإيقاع ببعض الأفراد والفتيات ومثلما حصل مع وليد ومرام (هناك أحداث لا نعرف عنها شيئاً إلا عندما تتجمع جميعاً في حافظة القمائم. هذا هو التدوير الحقيقي للنفايات البشرية) /ص383.
طارق فاضل صوت الراوي العالم في الرواية متشظية الحكايات وقد اختصر شخصيته وتفاصيل حياته الطويلة والتراجيديات التي عرف وقائعها، لأنه كان طرفاً فيها وقال الراوي /الأنا/ ضمير المتكلم (التلويحة شارة البعد، للغياب. و(هنو) لم ترفع يدها أبداً… فأي خيانة اقترفها حينما لم تلوح من بعد؟ لها، ولبقية من عصفت بهم في طريقي، ينداح هذا البوح القذر) هذا ما قاله طارق فاضل في إهداء روايته، وأعت بأن (هنو) ليست فتاة واحدة عرفها أو أوقع بها في القصر، وإنما هي جمع للاتي سقطن وارتبطن برجولات ساقطة وملوثة واختصر طارق كلهن (هنو) وأضاف الواو الدال على جمع المذكر للتعبير عن بقاء الأنوثة/ النساء/ مقيدات للواو وكل عمرهن الطويل، كجزء من ثقافة بدوية/ وعشائرية لا تقبل للمرأة غير التبعية وأن تكون ملحقة دائماً بالرجل. من هنا كانت الثقافة المجتمعية العربية والإسلامية ثقافة ذكورية تسيدت على موروث ضخم لا يفسح للمرأة مجال الأمن خلال الرجولة وأعتقد بأن طارق فاضل صوت الراوي المركزي في هذه الرواية عبر عن ذلك بإضافة الواو الى اسم الإشارة هنّ حتى قواعد اللغة التي وضعها الرجل وحدد مساحة المرأة فيها، اخترقها بواو الجماعة التي اختصرت حشد الشباب والرجال في رواية «ترمي بشرر.» وسحبت وراءها العدد الغفير للفتيات اللاتي كانت لطارق فاضل علاقات معهن. فتيات تعامل معهن من خلال حق الرجولة في ممارسة ما تشاء والرواية حافلة بحكايات خاصة بطارق فاضل (وتفاقمت رغباتهم عندما تناقلوا خبر عيسى الرديني الذي وعد بإدخال جميع أهل جارته لداخل القصر، وكنت ممن دخل القصر، وها هو ماء البحر يغمرني، تحت جسدي، وروحي فأتوق للخروج من هذه الجنة) /ص59.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة