(منذ نشأتِها حتى العام 1992م)
د. عبد الرضا علي
القسم الثالث
أمَّا عن أسلوبِ الشاعر ، فأن الدراسة وقفتْ عندَ النصوص الساخرة ألتي أثارها الشاعرُ في ديوانه منتقداً حالاتٍ اجتماعيةً عديدةً ، فضّلاً عن مواقف الشاعر الكثيرة التي تتسمُ بالمفارقات الشعرية ، مثل قوله :
أنتم نظرتُمْ ظاهري فضحكتُمُ ونظرتُ باطنكُمْ فعدتُ ضَحوكا
وقوله :
وأعجبُ للحيوانِ إنْ كان بائساً أتاني كأنّي كنتُ أعرفُهُ قبلا
فكم جاءنـي قطٌّ ينوءُ ببؤسِهِ فشاطرتهُ هَّاً وشاطرنـي أكلا
وقوله :
وسائلٍ قال لي: هبني لتسعدنـي فلساً من المالِ يُنجيني ويُنجيكا
فقلتُ: لا مالَ عندي كي أجودَ بهِ فقلْ لربِّكَ يُعطيـني لأُعطيـكا
أمّا المفارقةُ الكبرى فهي اتخاذهُ الأدبَ مهنةً ! للعيش المرِّ الذي لم يحققْ له شبعاً، ولا دفئاً ، ولا سكناً. وهو بهذا يريدُ أن يشيرَ إلى أهميَّةِ موقفِ الشاعرِ في الحياة:
يا صاحبيَّ اثأرا لي واحرقا كُتبي أو حصِّلا ديَّتي من مهنةِ الأدبِ
بنيتُ للشــعرِ أبياتاً مشــيَّدةً وما بنيتُ بها بيتاً من القصبِ
ويستشهدُ الدارس بأبياتٍ عديدةٍ تصوّر بؤسَ الشاعر، لكنّها تقفُ في الوقت ذاتهِ معلنةً انتصابَ قامته :
أنا حسبي ثروةٌ من أدبِ قد كفتني من طلابِ الذهبِ
فليعشْ جيـبي فقيراً إنَّما فقرُ جيــبي ثروةٌ للأدبِ
منتهياً إلى تحديدِ موقف الناقد من الشاعر أُسلوباً ، وفكراً قائلاً : (( فلا نجدُ في شعرهِ جلجلةً، ولا جعجعةً، ولا بهلوانيات في التعبير، ولا عنايةً ولو ضئيلة بالمحسنات اللفظية ، ولا تجد عنده قوالبَ مسبوكةً محفوظةً كالتوابيت، ولا بهارج مزخرفة كالزهورِ المصنوعةِ من الورق )) . ثم يحدّدُ موقفه ناقداً من الشعر قائلاً : (( أنا من الذين لا يرونَ للشعر ـ الحديث على الأخص ـ معنىً ما لم يكنْ منطوياً على فكرةٍ جديدةٍ أو قديمة معروضة عرضاً جديداً ، وإلاّ فإنِّي لا أحبُّ الوجوهَ المتشابهةَ تشابه … فلا أميِّـز بين واحدة وأخرى، المتحجبة بالأصباغِ والمساحيقِ ، فلا أتبينُ من وراء ملامِحها نفوسَ أصحابِها وخفايا أسرارها ونواياها )) .
ويشاركُ عبد الحق فاضل في تمجيدِ موقفِ الشاعر الذي يأبى الانحناءَ للمغريات الباحثُ ((وصفي البنّيّ)) في مقالتهِ (( حديث عن الصافي)) مفيداً أنه كثيراً ما كان قد صحبَ الشاعرَ في سوريةَ، ولبنانَ، ووقفَ على حقيقة موقفهِ شاعراً وإنساناً.
على أنَّ الدارسَ لا يعدمُ وجودَ صورةٍ من صور النقد اللغويَّ في المجلات آنذاك، وإنْ ضمَّ ذلك النقدُ بين جوانحهِ بعضاً من الملاحظات العروضيّة ، وبناءِ التقفية ، والوقوف على المفردات الشعبيَّةِ كما في الملاحظ التي قدَّمها ((محمود الملاح)) على ديوان ((ابن عُنين)) الذي حققه ((خليل مردم)).
إنَّ مراجعةَ محمود الملاح تلك اتسمتْ بالشمول، والاتساع ، والقراءة الفاحصة ، إلا أنها لم تصلْ إلى نتائجَ نقديةٍ بقدر ما أشارتْ إلى الخلل ، أو الخطأ اللغوي ، أو الضبطِ بالشكلِ ، فهي خلوٌ من المنطلقاتِ الناقدة.
وعلى وفق هذا فإنَّ معظمَ عُروضِ التحايا التي كانت تُكتبُ على أنها عُروضٌ نقديةٌ هي من هذا اللون الذي لا يثيرُ ملاحظَ يمكنُ عدّها في محصلتها النهائية منطلقاتٍ نقدية ، مثل عرض ذي النون الشهاب لـ ((ديوان التميمي)) الذي حقّقهُ ونشرهُ عليّ الخاقاني ومحمَّد رضا السيد سلمان المحامي ، فهو تحيةٌ أدبيَّةٌ يزجيها أديبٌ لشاعرين ليس إلا . وليس معنى هذا أنّ الشهابَ لم يكنْ يكتب نقداً جاداً ، إنَّما أردنا أن نشيرَ إلى أنّ بعضَ العُروضِ كانت بمثابةِ تحايا للمؤلفين لا للأثرِ الأدبيّ الإبداعيّ ، وهي ظاهرة لا تزالُ تحفلُ بها صحافتنا الأدبية.
أما النقلةُ الكبيرةُ في نقد النصِّ الشعريّ التي استوقفتنا في الصحافة الموصلية (وغيرها) ، فهي التي أسهم بها (( محمود فتحي المحروق )) وزملاؤه الشعراءُ الشبابُ المجدِّدون ، فقد كانوا يؤسسون لتجديدهم الشعريَّ (حداثتهم) تنظيراً ، سواء أكان ذلك في مقالاتهم التي ينشرونها في الصحافة الأدبية ، أم في مقدماتهم لدواوينهم أو مجموعاتهم الشعرية ، أم في نقدهم لتلك الدواوين والمجموعات نقداً فنيَّاً لا يخلو من منطلقاتٍ واضحة .
ففي نقد محمود المحروق لديوانِ شاذل طاقة الشعريَّ ((المساء الأخير)) ، الصادرِ سنة 1950م، عرضٌ لكثيرٍ من الأفكارِ الجديدة التي يراها الناقدُ حَريةً بالتصدي للأفكار العقيمةِ التي لا تؤمن بالتطور ، والحداثة ، فمنذ البداءة يرفضُ تعريف القدامى للشعر أنه: ((الكلام الموزون المقفى)) لأنه يجد أنَّ هذا التعريف يقود إلى ((أنَّ الكلامَ مادام يخضعُ لدائرةِ الأوزان والقوافي فهو شعرٌ .. حتى لو كان لغواً )).
ففي هذه المقالةِ النقديَّةِ دلَّ المحروقُ على وعيٍ نقديٍّ مبكِّر بدور الشعر في الحياة ، وقدرته على تجاوز حالات التردِّي والعقم إلى حالاتٍ إبداعيةٍ تقودُ الأدبَ إلى مدارجِ الرقيِّ والتقدم ، وتجعله قادراً على التعبير عن همومِ العصر ، وإشكالاته ، وفيما يأتي أهمُّ الملاحظِ النقديَّة التي يثيرُها المحروقُ ، وأبرزُ مُنطلقاته فيها :
1.إنَّ الحداثةَ في الشعر ثورة صاخبة على الأساليب القديمة ، والأخيلةِ العادية، والآفاق الضيقة . لذلك فانَّ إصرارَ بعضِهم على تقديسِ الأسلوبِ القديم في استيحاءِ الأطلالِ ، وبكاءِ الأجداثِ يجعلهم يعيشون في عقليَّةِ القرونِ الوسطى.
2.ليس كل من هبَّ، و دبَّ يقال له شاعر…. فما يخرج من القلب يدخل إليها، ويتغلغلُ في دمائها (هكذا؟) ، وما يخرجُ من اللسان لا يتعدى الآذان
3.لا يمكن للشعر في أيَّةِ حال من الأحوال أن يكون بوقاً للتهريج، والتلاعب بالعاطف … ومتى لبَّى الشعرُ رغائبَ الناسِ وسارَ في ركبِهم هوى إلى الحضيض، وكان نظماً ، بل لغواً، لا يمتُّ إلى الشعر بأي سبب … وحينذاك يكون خلواً من العواطف التي تجيشُ بقلب الشاعر الصادق التعبير .. بل نكون في بعد شاسع عن قدسية الشعر الذي هو لغة السماء!.
أما نقدهُ التطبيقيُّ لشعر شاذل طاقة فقد دلَّ فيه على أن أفكاره التنظيرية في العملية الإبداعيَّة كانت تصدر عن ملكة شاعرة ، ومن شأنِ هذه الملكة أن تتفقَ مع عواطفِ نصِّه وأخيلته وأفكاره ، ثمّ تتقاطع مع غيره ، على وفق المعيارية التي تؤمنُ بها تلك الملكة.
لهذا وجدناه قد تقاطع كثيراً مع نصوصِ الديوان في الملاحظ الاتية:
أ ـ وجدَ في بعضِ الأبيات مفرداتٍ زائدةً كان يجبُ حذفُها ، لأنَّ الصورةَ الشعريَّة توحي بالمحذوف .. ويلاحظ هنا اهتمام المحروق بالصورة اهتماماً واضحاً .
ب ـ وجد أن الشاعر لم يوفقْ في بعضِ تجاربهِ الشعرية ، إذ كانت مضطربةً ، مثل قصيدتي : ((لقاء)) و((ليل الصب)) أما الاضطرابُ ففي قول شاذل :
نتحاشى اللقاءَ خوفَ افتضاحٍ وعلى الوجهِ ألفُ ألفُ دليلِ
لأنَّ المحروق وجد في ((هذه الآلافِ الزاخرةِ من الأدلةِ قد أضفتْ على البيت صورةً سمجةً تافهة)).
أمَّا ((ليل الصب)) التي عارضَ بها قصيدةَ الحُصريَّ القيرواني :
ياليلُ الصبُّ متى غدُهُ أقيامُ الساعةِ موعدُهُ ؟
فقد رفضها الناقدُ ، لكونها ليست تجربةً حقيقية ً، إنَّما تقومُ على التقليد ، فقال : ((إنَّ زمنَ المعارضات قد مات كما مات أهلهُ .. و أنّ فكرةَ المعارضةِ أصبحت أمراً تافهاً غيرَ ذي قيمةٍ أدبيةٍ وفنية … إنْ لم نقلْ هي تقليدٌ وتشويهٌ للصور الرثةِ التي فاضتْ بها مخيلةُ الشاعرِ القديم)) .
ج ـ إنَّ بعضَ أبياتِ شاذل كانت بمثابةِ إعادة صياغةٍ لأبياتٍ سابقةٍ في قصائدَ أخرى ((وهذا مما لا يُستحبُّ أبداً، لأنهُ دليلٌ على العجزِ والعيِّ)).
د ـ إنّ الشعرَ السياسيَّ على وفق ما يرى المحروق ((كلامُ جرائد خالٍ من العاطفةِ الذاتية التي تختلجُ في قلبِ الشاعر المخلصِ لفنِّهِ ، زدْ على ذلك إنه شعرُ مناسباتٍ يموت مع موتِ الحوادث الطارئة التي نُظم بمناسبتها ، بخلافِ الشعرِ الوجدانيِّ الخالدِ مع الدهر ، المنبثقِ من أعماقِ النفس)) .
هـ ـ لم يجدْ في الديوان صورةً صادقةً واضحةَ المعالمِ عن حياةِ الشاعر كما ذكر في المقدمة، إنَّما وجده مختلف الأغراض والمقاصد ، ومتباينَ الاتجاهاتِ، فمن قديمٍ إلى حديث ، ومن إسفافٍ إلى سموًّ ، ويرجع ذلك إلى السرعةِ التي كانت ترافقُ الشاعرَ بإلحاح في إخراج ديوانه الأول .