د. هديل عبد الرزاق أحمد
(هناك في فج الريح) رواية جديدة للكاتب العراقي عبد الرحمن مجيد الربيعي، الصادرة في العام 2011 عن دار نقوش عربية تضيء ماهو جديد في عوالم الربيعي، وفي مسار مشغله الروائي. فللوهلة الأولى وقبل ولوج عوالمها يصادفنا عنوان الرواية، ولماذا اختار الكاتب مكان (فج الريح) عنواناً لروايته؟ وأية سمات يمكن أن يوحي بها هذا العنوان؟
يشي عنوان الرواية بمكنونات المسكوت عنه، والمتعلقة بالشخصيات، وأزمة طريقها الطويل النائي، مستشرفاً خواءه في نهاية المطاف، ومعبراً عن الروح المجدبة لهذه الشخصيات، وأحلامها التي توأد قبل ولادتها «الفج مفرد وجمعه فجاج، والفج هو الطريق الواسع بين جبلين، لكن انظري، هناك مجموعة من الجبال، ولذا يصح أن نقول عن المكان فجاج الرياح… والفج هو غير الناضج من الفاكهة» (الرواية: 112).
وتنطوي الرواية على ثيمات متعددة تتنازع سلطة الحضور في النص، وأبرز هذه الثيمات وأكثرها حضوراً هي (هاجس الاغتراب الإنساني) بشتى تجلياته. فالإحساس بالغربة في داخل المجتمع، والعجز عن التأثير فيه، وتلاشي شخصية الفرد، وإحساسه بالهامشية داخل متاهة الحياة، تتسيد المشهد العام لعالم هذه الرواية، وتبرز بنحو واضح عبر شخصية (حسان الزيدي) الرسام العراقي المقيم في تونس بجواز سفر وإقامة فلسطينية، لعمله مع أعضاء مكتب اتحاد عمال فلسطين، مصمماً لمجلة تابعة للاتحاد الذي انتقل إلى تونس بعد غزو بيروت 1982.
ويعمد الكاتب إلى جعل (حسان) محور الرواية ومركزها، فمنه وبه تتجسد معالم الشخصية الإشكالية، وتشع تجليات واقع الإنسان العراقي وإشكالية وجوده وتشظي هويته وضياعها في خضم الصراعات السياسية الداخلية والدولية، وكما يبدو واضحاً في حديثه مع فاتن «إنني أتساءل الآن: أية أقدار تربطني بهذه المدينة؟ بهذا البلد؟ أغادره ثم أجدني وقد عدت إليه؟ وهذه المرة لا أعرف إلى متى سأبقى فيه؟ بعده إلى أين سأتجه؟ هل إلى عراق محاصر وقبضة صارمة من نظام ثقيل؟ إلى أهل لم يتركوا شيئاً إلا وباعوه من أجل أن يأكلوا كفاف يومهم… إنني الآن فلسطيني، هكذا تقول أوراقي لدى وزارة الداخلية وما هو مدون في بطاقة إقامتي، كيف وأنا العراقي جداً؟» (الرواية: 114).
وتتآزر تقنيات السرد التي يلجأ إليها الكاتب لتسلط الضوء بشكل تام على حسان، لتبرز مديات إشكاليته وتأزم واقعه ومعاناته، وعلى الرغم من حضور أكثر من أسلوب سردي في عرض الأحداث وتقديمها؛ بيد أنها لا تصب إلا في مجال الكشف عن شخصية حسان. إذ يقتسم سرد فصول الرواية الراوي ذي المعرفة الكلية الانتقائي (بحسب تصنيفات نورمان فريدمان) مع فاتن عبد العزيز (عبر أسلوب السرد الذاتي بضمير المتكلم) ليكونا أداة للكشف عن وعيه الداخلي وأفكاره المتخبطة بوصفه شخصية إشكالية مهزومة تحمل كماً من المتضادات في عالم لم يمنحه سوى الخيبة.
ويأتي اختيار الراوي (ذي المعرفة الكلية الانتقائي) بذكاء من الكاتب، ذلك أن هذا النوع من الرواة يستبطن وعي الشخصية ويكشفها أمامنا بكل تضاداتها وصراعاتها الداخلية وإيماءاتها ومشاهداتها، وهو ما يحقق لنا جانباً مشهدياً ودرامياً مهماً يهيمن على البنية العامة للرواية، فيخلق لنا صورة متكاملة عن الشخصية، فلا نسمعها فحسب بل نراها أيضاً، ما يوفر أيضاً عنصر الإيهام بواقعية الشخصية. فالحكاية تقدم مباشرة كما تعاش من طرف حسان وكما تنعكس في وعيه، وتقدّم الأفكار والرؤى والمشاعر كما تتكون بالتدريج، فتبدو الرواية كأنها بلا راوٍ، كما في هذا النص على سبيل المثال «بدأ حسان يسترد نثاره متجاوزاً ركام أحزانه الحبلى، كان يقطع شارع رابعة العدوية ذهاباً وإياباً وغالباً ما يسهو فيوقه صوت منبهات السيارات الطائرة وكأنها في حمأة سباق. كان أحياناً يحرك راعيه ليتنفس بعمق فهو في فج الريح، فج لا يهدأ، وكم من مرة ردد في سره أن الذاكرة الشعبية اخترعت ها الاسم في توصيف عجيب للمكان إذ إن المرء لا يعرف غالباً من أين تهب الريح؟ كأنها تهب من كل الجهات، تتصادم ثم تتفرق، وبعد ذلك تتجمع… لطمته رياح الفج فتطاير معها شعر رأسه، وكان يحاول أن يجمعه فتأخذه الريح التي تعبئ عينيه بغبار ثقيل كأنه ذرات حصى مطحون، هو غير غبار العراق ذلك الآتي من الصحاري وكان الناس يسمونه (الطوز)» (الرواية: 180) فالراوي هنا جعل المتلقي يتابع تطور أحداث النص عبر وعي حسان، حين صب تركيزه على مكامن العالم الداخلي له، مفصحاً عن أفكاره، ومتبنياً رؤيته ومشاهداته، ومتماهياً معه.
إن هذا النوع من السرد اسهم بنحو مباشر في التوثيق المشهدي لانثيالات ذاكرة (حسان) المتخمة بالخراب الذي خلفته الحروب والتحولات السياسية والانقلابات الدموية والصراع السلطوي في العراق، وموقفه الإشكالي من كل هذا، فحسان شخصية إشكالية بامتياز، فهو متردد بين عالمي (الذات) و(الواقع)، إذ تكمن في ذاته قيم أصيلة وأحلام وأهداف يسعى لها لكنه يصطدم بواقع منحط يجعله ينهزم أمام شراسته وتحدياته، فيعجز عن تغيير ما يحيطه من مآسٍ لم تبقِ من بلده شيئاً «لقد انتهى كل شيء، العراق دمروه، وضربوه بحقد دفين، وبدأت وقدة الحماس في الخفوت، في مشرق الأرض العربية ومغربها، والخدوش التي لحقت بالضمائر ستشفى بالتناسي… لقد خرج تاركاً لهم الجمل بما حمل برغم أن الجمال التي بقيت حية لا أحمال عليها… أعادت الحرب الأرض والناس للقرون الوسطى… لم يتركوا شيئاً إلاّ وقصفوه، كأن بينهم وبين العراق ثارات متراكمة، لم يكن حسان هناك عندما حصل كل هذا ولكنه عندما يرى صور القصف يحس وكأن القصف يقع على جسده رغم أنه بعيد» (الرواية: 30).
ويهيمن اللا تكافؤ الذي يستشعره حسان بينه وبين محيطه، مولداً في نفسه الإحساس المطلق بالعجز التام إزاء المتغيرات، وبلا جدوى كل شيء، بدءاً من الفن الذي قامت الدولة بأدلجته لصالح أفكارها، مروراً بالحب (علاقته بفاتن)، والجنس (علاقته الجسدية براضية)، وصولاً إلى العمل الحزبي، والإيمان بأيديولوجيا معينة، كالشيوعية التي آمن بها وتركها كسيراً بعد أن أحس بصراعات أفرادها وخياناتهم لبعض.
يمكن القول إن الرواية قد وثقت عبر وعي الشخصية الإشكالية وذاكرتها، مشاهد الخراب النفسي للفرد والمجتمع، وللوطن المبتلى بالحروب والقمع السلطوي، فكانت مرآة لرصد جدليات الصراع والفصام بين (الوعي والممارسة)، فهناك (وعي) تام بالأزمة، يقابله عجز مطلق عن (ممارسة) إنهائها.