علوان السلمان
الاشكال السردية بتنوعها البنائي الكاشف عن الممكنات الجمالية بابتكار المشاهد والرؤى والتعابير المكتنزة بالمضامين الانسانية التي تستفز الذاكرة وتحرك خزينها المعرفي..هدفها المتعة الجمالية..والمنفعة الفكرية عبر التساؤلات..وما بينهما تكمن الرغبة في التعبير وتسجل اللحظات بكل تكويناتها التي تشكل اهم الاسس النفسية لتحريك الساكن الوجودي للاشياء في مجال التجربة الابداعية التي هي القدرة على التخييل عن طريق التوليف بين الافكار….
وباستدعاء النص السردي(المدونة الرقمية)..الذي نسجت عوالمه المقطعية التي تجمعها وحدة موضوعية وتكامل درامي وسرد فني.. انامل القاص و الروائي حنون مجيد..واسهمت دارعراب للنشر والتوزيع في نشرها وانتشارها/2016..كون خطابها يتحرر من القيود سالكاً طريق الانفتاح والمزاوجة بين الاشكال الادبية..فضلا عن ان الشخوص تشكل المحور الاساس في استكمال البنية الحكائية..اذ بوجودها تتصاعد وتيرة الاحداث وتتشابك متصارعة لاحداث نقلة في البنية الحكائية.. ابتداء من العنوان المركب الاضافي والمفتاح الاجرائي الذي شكل بؤرة مستفيضة من الدلالات المعبرة عن ارادة النص تعبيراً مختصراً..وهذا يشير للتوغل في عوالم النص والتفاعل معه..من اجل تحقيق مقاربة مستندة الى معايير ومقاييس تنصب عل الجوانب الدلالية والشكلية والبصرية لانتاج قراءة موضوعية لعوالمه ومكوناته المشهدية المتجاوزة ببنائها السردي المشحون بالايحاءات الخالقة لصورها التخييلية ومواقفها الانسانية..فكانت مغامرة تجريبية رائية..متجاوزة ببنائها السردي المشحون بالايحاءات الخالقة لمشاهدها التخييلية ومواقفها الانسانية..
(تناولت كأسين من الماء مرة واحدة لضرورات صحية وعاودت الجلوس الى منضدتي..غرفتي ذات طابع شتائي..مفروشة بسجادة من النوع الكاشاني جاءت على قياس الغرفة تقريباً..ويبدو انني لم افكر بمزاحمتها بشيء آخر..ممايمكن ان اسد به فراغاً ضيقاً ظل قائماً امامي محاذياً الباب..الا قطعة صغيرة من سجاد مما يوضع عادة في الداخل..مهاداً للدخول او الخروج..ليس على منضدتي سوى حاسوبي ومجموعة كتب ودفتر او دفترين واقلام حبر ورصاص استعمل الاخير منها اولا..كلما عنت على بالي فكرة ما..كتبي الاهم موضوعة داخل مكتبة ثانوية جانبية ذات مجموعة ارفف غير متجانسة في الارتفاع والطول..وضعت تصميمها امام نجار مغربي فصنعها على هواي..وكان هذا اودع رسائله الى حبيبته لدى صديق له..فأفشى سرها لزوجته التي نشرت خبرها بين جاراتها ففضل الهرب الى العراق على مواجهة زوجته بوجهه الذي خادعها به طوال عشر سنين..)/ص15
فالنص ينصب في خانة الواقعية التي تتلبسها في بعض مفاصلها نوع من الايهام لكسر رتابة التوقع باعتماد مقاربات اجتماعية مع توظيف امكانات التشكيل التي امتلكها الكاتب من تفاصيل الحياة..مستعملاً له من التقنيات الفنية(لغة دالة ومدلول رامز وقراءة تنطلق من واقع اجتماعي..)كي تحقق الانتقال من التسجيلية الى الرؤية الفنية بلغة تصنع الغرائبي من المألوف وتجمعه في بؤرة عالمها السردي المليء بالحركة والحيوية المتدفقة.. اضافة الى ذلك فالنص يكرس دلالات انسانية عميقة في حالة صيرورة دائمة ونمو من الداخل يكشف عن حركة زمنية ومتغيرات شيئية من خلال التحكم بجزئيات المحكي ووضعه تحت سلطة المتخيل الذي يبني تصوراته على النسق القيمي..فضلا عن انفتاحه على تقنيات السرد البصري الذي يستدعي المكان ـ الوعاء الفكري للذاكرة ـ والحاضنة لفعل وانفعال وتفاعل المنتج السارد بمشاهده المتوالدة من بعضها البعض بمخيلة مكتظة بالمعطيات الحسية التي يتفاعل معها بوعي كلي ولغة محكية عبر خطاب الذات ومناخاتها بايجاز وتكثيف جملي..
(صدور قرار احالتي لى التقاعد لبلوغي السن القانونية برغم الفوضى غير الخلاقة التي فتحت في البلد عيناً واغمضت اخرى…أثار زوبعة في داخلي..لكنه في الوقت نفسه رفع الغطاء السميك والثقيل الذي كان يخيم على صدرينا فكانت رسالتها التالية هي المنبع الثر لعاطفة ظلت تتنامى وتتوارث كالنار التي لا تنطفىء..وقد وجدتها أثمن الفرص لكي أبلغها ما كنت طويت صدري عليه..
(ايها العزيز لشد ما شعرت بالحزن والفراغ كلما مررت من باب غرفتك وانت بعيد..لقد مررت بها صباح هذا اليوم..وانا مسكونة بحلم جميل..صحيح انني لم ارك الا…)…
(الاعز والاغلى..كان لرسالتك ابلغ الاثر على نفسي..وانها لمنة منك علي..وانني لسعيد حقاً اذ تأتيني رسالة منك بهذا الحرف البليغ..حقاً لأعد نفسي حاضراً ما دام حضورك قائماً في نفسي وسيبقى خالداً..)
بل كان هذا الجواب نقطة الانعطاف في علاقتي معها../ ص29 ـ ص30
فالخطاب يعلن عن تجليات الذات وصيرورتها من خلال افراز الوعي الجدلي القائم على قطبي التقنية والجمالية بلغة ايحائية اللفظ..متفجرة الدلالة المرتكزة على خصوبة المعنى..عبر تقنية الحوار بشقيه الذاتي(المنولوجي) الذي هو حوار الذات والنفس..والحوار الموضوعي(الديالوجي) الذي هو حوار الشخوص التي تغيب صوت الراوي العليم وتكشف عما في داخلها وهي تتحدث من عمق وضعها الانساني المأزوم..
ـ الاشياء من حولنا هي التي تملؤها بالظلمة..الحب الوحيد الذي يملأ الحياة بالنور..هو الوحيد الذي يرى الانسان فيه قرينه مثل نفسه متجلياً بالاناشيد..
ـ أغلق الضوء من فضلك..بدأت أنام..أصبح النوم حريتنا الوحيدة الى الاحلام..
ـ الحب هو الصورة المثلى للحلم..والحلم هو الغاية المثلى للوجود..والوجود هو الغاية التي لا يمكن تحقيقها الا بالحب..هيا الى النوم ما دمت ترغبين في ذلك..وان شئت فهيا الى الحلم..
ـ نعم اليه ان كان ذلك ممكناً الان / ص376
لذا فالسارد يتحرك في امكنة مفترضة..مجردة..تفعل فعلها في الشخصية التي ما تفتأ تحتدم بالتمرد والهرب الى اماكن تحصل فيها على حريتها التي هي وعي الضرورة..بل هي تعيش صيرورتها وسيرورتها في امكنة وبيئة لها دلالاتها..تتنفس صراعاتها عبر ثنائيات متناقضة تعبر عن نسق العلاقات الاجتماعية والوجود الاجتماعي والافكار..
(لا انكر انني كنت أتوقف بين لحظة ولحظة اخرى عند صور جسيمة كنت افرغ شحنات عاطفتي نحوها..صور تقول توقف..اياك ان تتقدم..وكان ذلك يتبدد في اللحظة نفسها..فالواقع هنا أقوى من الفضيلة التي حاولت ان ألزم بها طاقتي..بل وأعتى.. وكنت كل لحظة أردد:
(يا ايتها اللحظة الراحلة توقفي فأنك عادلة) مستعيداً بذلك عبارة يوناني قديم لانها اصبحت معي..ثم كنت بعدئذ انهض من مجلسي..اقف بازاء شباك غرفتي..اطل على حديقة الشمس فيها تتراءى لي انها تغادر مخدعها تواً..) ص20ـ ص21..
فالسارد يقيم صراعاً عبر حوار داخلي..تأملي بخطاب تتداخل فيه السردية ببنية درامية متنامية..اضافة الى معالجته شكلا من اشكال الاسقاط النفسي..مع محاولة اضفاء فسحة من الترميز وهو يصور هواجس شخوصه الداخلية..مع تركيزه على الجوانب المعتمة في الانسان الذي يبرز كوحدة اساسية بتكنيك يكشف عن نفسه من خلال رحلته معه..فضلا عن ان النص بايحاءاته التصويرية الحكائية وعمقه الدلالي يكشف عن مكنون الذات اتجاه الذات الجمعي الاخر ببوح وجداني منطلق من مرجعيات فكرية وروحية اسهمت في اتساع عوالم النص ومشاهده المنصهرة في بوتقة تراكيبه الجملية في السياق والمواجهة الدلالية على وفق دوافع نفسية تتفاعل عناصرها الفنية والتجربة الذاتية للتعبير عن الحالة الذهنية والاستقرار في الادراك الحسي لما يحمله من دلالات سيميائية عبر دوال متلاحقة….كونها استجابة للخطة المخزونة في الذاكرة لتحقيق الاثر الكلي على حد تعبير ادجار الن بو..مع الاحتفاظ بوحدة موضوعية سردية لاتخلو من غرائبية تتناسب والموقف الفكري..الواقعي وانعكاساته الوجدانية..لذا ففضاء النص يبرز المعنى الحدثي الذي يمنحه ديمومة تحرك المخيلة فتفجر مخزونات المستهلك(المتلقي) لانتاج وتوليد المعاني والدلالات من المشاهد التي يؤسسها السارد والتي تقوم على الفنطازيا التي هي خيال رؤيوي على حد تعبير دانتي..باعتماد الشخصية ذات الطبيعة الشائكة في عمقها النفسي..المليئة بطموحات الذات الانسانية الحالمة التي يكتشفها من خلال الحوار الذاتي الذي يتم الانتقال اليه بتلقائية ممزوجة بالسرد مختصرة المسافات الفاصلة بين الازمان(زمن السرد وزمن القص) كون الشخصية تروي الحدث لحظة حدوثه..
وبذلك قدم الروائي نصاً سردياً يتسم بالوعي الفكري من خلال موقف واع لمعطيات الزمن السابحة داخل أطر دلالية تنحصر في(الذاتي والتاريخي و الانساني..) ومبني على عالمين مكانيين:الذاكرة والواقع بموجداته ومن خلالهما تتشكل حركة التجاذب والتنافر بين الذات والموضوع عبر جمل تتنوع اشكالها مع تجاوزها المعايير المتداولة..وتميزها بالدفق الخيالي والغرائبي والمكنون السردي الذي يكشف عن اغتراب الذات بتوظيف الفنون الحسية والبصرية والمكانية بلغة تشكل وسيلة وغاية في حد ذاتها والتي يعمل السارد على تفجير قدرتها الانزياحية لتكشف عن وظيفتها الجمالية والمضمونية وهي تسير بخطين متداخلين: ولهما واقعي يتبدى فيه عنصر الحكي متأرجحاً ما بين السرد الفني وآلية الحوار بأبعادها الاجتماعية..وثانيهما النزعة الرومانسية التي خلقت عوالم شعرية شفيفة ميزها ايقاعها الوجداني..