زهير الجبوري
يستعيد الشاعر انمار مردان في مجمل ما كتبه اناه , وشعريته الطافحة عن اثارة الاسئلة , مثل هكذا تجربة ينهض السؤال الشعري بوصفه سؤالاً فلسفياً عن ثنائية الحضور والغياب , وهي ثنائية ضدية تستنهض عبر الحواس تلك الاشكالية المطلقة , أو ذلك البعد التأملي | الميتافيزيقي , ولعلي هنا اقف عند قصيدته التي فازت بأحدى المراتب الاولى في مسابقة الجواهري الشعرية العراقية
ان عملية الاستحضار التي انبثقت من عتبة العنوان , فاض لنا ما يمكن ان نسميه ( بالمناص ) , وهو المتن الذي يتناظر مع ( ثريا النص ) | العنوان , بعدها يأخذ النص وظيفته الادائية في عملية البناء من خلال رسم الصورة المجازية والتحولات الاستعارية والتشبيهية , وما الى ذلك ..
القصيدة في استهلالها الاول , تستنهض فعل الولادة لحالة الاخضرار والارتشاف وحمل سجادة السماء , وهنا يقع ( الحذف المجازي ) بأطلالة تهويمية هائمة بالحس الصوفي , انها لغة العرفان ( لغة توليدية ) , امكنت الشاعر على خلق فضاءاته الخاصة , مع ايغاله الملح في عملية اللّعب اللغوي المكرور , ما يستدعي إحالة الجملة الشعرية لديه الى بنى ذهنية ذات متعة تلقي , وهذا ما يركز عليه وما يقوم به بغية الاثارة بالدرجة الاساس ..
انمار مردان , شاعر تقلقه القصيدة , لذا يقصمها في مجازاته كل المفارقات البنائية واللغوية , بل يزينها بمضمون هائم بالعبارات الواقعية , وللقلق حق البوح , وهذا ما يجعل الشاعر اكثر حذراً من نصه , إذ يجعله متمكناً من لغته الشعرية , على الرغم من كتابته لبعض النصوص الجريئة ..
ككل , قصيدة ( متى احمل صراطي المستقيم ؟ ) مشحونة ببنية الحذف , وان تشبعت في طياتها اداءات ( التناص , واللغة التكثيفية , والبنى الاستعارية ) , واعني هنا ( بنية الحذف ) , بنية العتبات , وتعدد الاستهلالات , إذ تكررت عبارة ( بعد حذفي )
_ 8 مرات _ , وهذا ما يستولد صعود حدة التوتر الشعري في كل مقطع , مع امساكنا بخيوط متداخلة بين الحسي | الغنائي , والحسي | العرفاني ذات البعد الصوفي , الامر الذي يجعل الجملة الشعرية عند انمار مردان جملة اكتشاف , جملة تأسيس , جملة تصريح , ولعل ذلك اقرب من شعراء المغامرة التجريبية في تجديدة مضمونية القصيدة الحديثة , ولهذا تقع عليه مسؤولية تكريس هذه الطريقة ومن ثم الابتعاد عن المناطق المغلقة في شعريته , نقرأ :
بعد حذفي
لا تكتبوا شيئاً على قبري
أخاف الوحشة على اسمي
ولا تقرأوا إلاّ آخر قصيدة
كتبتها وتركتها عارية ولم تنشر …
تتكون هنا عناصر اخرى مع شعرية الحذف , أهمها ما يمكن ان نسميه ب ( شعرية الوصية ) | لا تكتبوا | = ثم | ولا تقرأوا | = ثم | (إلاّ آخر قصيدة كتبتها ) , لا أعرف ان شاطرني الرأي احد , هل يوجد شاعر عراقي يهندس قصيدته , ثم يجعل فيها وصايا ؟ ..
قد يكون حضور القصيدة عبر اداءات شعرية ( مقطعية ) متناسقة , اكثر وضوحا ً من كونها تجليات ذاتية , تجليات اضفت الكثير من مشهديات الجمل الشعرية التي كتبها انمار مردان بأتجاه فضح مكامنه وانفعالاته , فكانت اللغة خير وسيلة للتعبير عن ذلك , نقرأ في المقطع :
بعد حذفي
ثمة أمرأة تتساقط كشبح ٍ
تلثم برغبات لحدي
وأكون مهددأ بالافراط
وبداية لنهاية أكل لدهر ثلث جوعها وقفز …
وأمساكاً بأحساس الشاعر ,وتعميقا ً لحالة الحذف , ثمة صورة تجريدية ناطقة هنا , او مشهد يخفي وراءه احساساً متيافيزيقياً , او ربما تجليات عرفانية تشكلت عبر حدسيات رؤيوية , هكذا تحيلنا مقطعيات القصيدة الى القراءات المفتوحة .
ان الطريقة التي كتبت فيها القصيدة انطوت على تراتبية شعرية , فكانت العبارة اللازمة ( بعد حذفي ) , في كل مقطع فتحت شهية استهلالية عبرت من خلالها عن تحول نصي ( مناصي ) يثير لدى المتلقي متعة التحول , مع ان الشاعر يقحم مقاطعه شحنات لغوية متمثلة في المجاز والانزياح وسمات البلاغة الشعرية الاخرى …
قصيدة ( متى احمل صراطي المستقيم ) , عبرت عن تحول جوهري ناضج في شعرية انمار مردان , إذ استطاع بنحو ملحوظ ان ينمي العناصر المكونة للقصيدة , ومع تجلياته في الاتساع الرؤيوي , حيث افاض لنفسه ان يعطي وظائف عدّة في نص واحد , منها ما امتلكته موهبته الشعرية , ومنها ما اختار لها مضموناً , ومنها ما تصاعدت به طريقته اللغة ..
في اعتقاد خاص , استطاع الشاعر ان يعيد تجربة القصيدة الحديثة , لكن برؤية معاصرة , حيث ألبس القصيدة ثوبا تفاعليا مع رغباته , وانفعالاته , ليبرهن ان مجمل ما يكتب من شعر منبعه ( غنائي ) وهو الشاعر الوحيد الذي لا يعلن عن انكسارته , ولا عن مكابراته , انما يستعير عبارات بديلة عن كل ذلك عوضا ً عن اعترافاته الخفية , فهو في خلوته منكسر , فكانت بنية الحذف بديلاً مقنعا ً لذلك , ولو قدّر للشاعر ان يستمر بهكذا اسلوب وبهذه الروحية , فإننا سنلمس منه لكثير من الالتقاطات المثيرة للانتباهه في مشروعه المتجدد …