أحمد حيدري
بعد العرض الأول لفيلم “أطفال السماء” (انتاج 1997) ، والفيلم يحصد الجوائز، في بلاده حصل على خمس جوائز منها العنقاء البلورية كأفضل مخرج وسيناريو وكأفضل فيلم. وحصل على 12 جائزة عالمية دولية، ومنها ترشيحه لجائزة الأوسكار (1998) وهو أول ترشيح لفيلم إيراني لهذه الجائزة.
إزدواجية السماء والأرض
ليس هناك من لم يسمع بأنّ الحذاء مكوّن رئيسي لشخصيتنا، حذاءك دليل على شخصيتك. وحذاءك دليل على إخراجك السينمائي.
المشهد الأول من الفيلم يعكس إزدواجية السماء الداخل في عنوان الفيلم، حذاء وردي متهرئ يضيف له الإسكافي الصمغ ويحشر فيه الابرة الكبيرة ليمرر الخيط. حتى الخبار الذي وقف بطل الفيلم “علي” ليأخذ حصته من الخبز، شارك في اضفاء المعنى الأرضي عبر جلوسه على الأرض للصق الخبزة في فرن محفور في القاع. يصرّ المخرج مجيد مجيدي على أرضية المشاهد، فعلي يتجه إلى محل ليشتري البطاطس التي يعشقها الأطفال، يزجره البائع ويقول له: (ليس من هذه خذ تفاح الأرض من تحت.) فالإيرانيون يطلقون اسم تفاح الأرض على البطاطس. ومن سيخطئ ويأخذ الحذاء الوردي ينتمي للأرض العميقة، فهو يبادل السلع القديمة بالجديد البلاستيكي في الأزقة الأشد فقراً. هو من يشعرهم بالقيمة الكبيرة للأشياء التافه والحقيرة، كما سيفعل علي وزهرة، الذي ينتقل الشجار القائم بين والديهما إليهما بكل سلاسة ومرونة. ومَن يقف على الأرض مواجها السماء هو نفسه الذي سيكسر “القند” للمسجد ليوزع مع الشاي بينما هو لا يلمس حتى الغبار المتساقط على الشرشف، القند أو الفوزي الذي أطلقه سكان الجنوب وحدهم عليه، وجاءت تسمية الفوزي لشدة جمال فوزية بنت الملك فؤاد الأول زوجة محمد رضا بهلوي. قطع السكر الصلبة.
حتى منتصف الفيلم تركز الكاميرا الأرض، حتى نكاد نتقين من أنّ الكاميرا حدباء، فكل مكونات المشاهد هي أرضية لأطفال السماء الذين سيلعبون لعبة القفز، ويخفون أحذيتهم الوسخة. بين علي وأخته زهرة اتفاق، فهو من أضاع حذاءها الوردي، دليل شخصيتها الأنثوية، لترتدي حذاءه الأبيض دليل شخصيته الرجولية. تتوسع القصة على ركيزة الأحذية، غير ناسين أبدا وردية الحذاء المفقود. وبياض حذاء علي إذا جمعناه مع أزمة طهران الدخانية، فسنعرف أنّ كل أبيض في هذه المدينة يُتعبر كارثة، فهو يتبدل إلى الرمادي في غضون ساعات، فما بالك بجولة ركض صباحية تقوم بها أخته وثانية في الظهر يتكفل بها هو؟
الفيلم ذكي وتتوالد المشاهد الذكية بسرعة نمو الأطفال. وبعد ثلاثين دقيقة وبعد أن فهمنا قصة الفيلم ولم يعد شئ ليقال، يدخل الفيلم مرحلته الحرجة، ولأول مرة في الدقيقة 47 سترتفع الكاميرا للسماء، حين يرافق علي أباه إلى مناطق وصفها بالعالية العالية جدا (الثراء). وتدخل الكامير في اللقطات البعيدة والبعيدة جدا ليصباحا وهو راكبين على الدراجة مجرد نقطتين على الجسور. وسيساعد علي أباه في عمله، بل سينقذه، فمجيدي تعمال مع موضوع اللغة كاشارة صغيرة جدا. فلغة الأب تركية ولذلك لا يستطيع التواصل مع مَن يطرق أبوابهم ليقوم بعمل البستاني في منازلهم الفخمة، ليتدخل علي ويتحدث مكانه.
لا يبخل مجيد مجيدي في المشاهد، يعرف جيدا أنه يتعامل مع مادة سمواية. فالمواقف الانسانية تنصب بجزالة، كل مشهد يدخل بعدا آخر للطفل في عالم لا يودون الكشف عنه، عالم قاسي متهمين فيه بالكذب وهم دائما مجرمون، وإن كانت جريمتهم صغيرة جدا، بحجمهم.
كل ما جاء في الفيلم على جانب، والمشهد الأخير في جانب آخر. ستقام مسابقة ركض بين المدارس وسيحصل الفائز بالمركز الثالث على حذاء، حتى لو كانت الجائزة الأولى منزلا أو مليون دولار، لن يبعد علي عينه عن الجائزة الثالثة، فهي حذاء سيعوض به أخته. لذلك شارك وبعد ركض مضني وفوزه، جلس على حافة حوض الماء ومدد رجليه لتجتمع الأسماك الحمراء…. لن تكمل المشهد ستقف مصفقا وأنت تنظر للأسفل أو ستغلق عينيك متأثرا بالجراح التي أصابت رجل علي ستقول بينك وبين نفسك…
لطالما سألتُ نفسي إلى أين يذهب الممثلون الأطفال بعد نهاية الفيلم؟ ماذا يحدث لهم؟ وهو الموضوع الذي ستتناوله ندوة المهرجان الدولي لأفلام الأطفال الثلاثين المقام في إصفهان هذا العام.
وبدأ بحثي عن الأطفال الممثلين بعد مشاهدتي فيلم “لون الله” لنفس المخرج و”باشو، الغريب الصغير” لبهرام بيضائي. فممثل لون الله (محسن رمضاني) الفاقد للبصر تُرك ليكمل حياته كما جاء إليها، وباشو (عدنان عفراويان) يبيع السجائر في كشك.
أما بطلنا علي ( فرخ هاشميان) فيعمل حاليا صباغ. يرسم على الجدران ألوان السماء. يقول عن المشهد الذي وقفنا له مصفقين أو أخذتنا الدهشة والبعض منا بكى:
” كان أصعب مشهد هو مشهد الحوض. خلط شخص “باسم” أصغر نجاد إيماني الكمون مع عجين الخبز ومسحه على كف رجلي لكي تجتمع الأسماك حولهما. كلما أذكر المشهد تألمني رجلي.”. وهناك مَن لا تألمهم أرجلهم وباتوا أطفالا للسماء السابعة.