حسن خضر
ينشر بالاتفاق مع صحيفة الأيام الفلسطينية.
قلتُ، في العام 2002، إن حماس ألحقت هزيمة استراتيجية بالفلسطينيين، شعباً وقضية. لا يُساق هذا الكلام على طريقة «ألم نقل لكم». فلا فائدة، بالمعنى الفردي، من التذكير كم أصبنا وأخطأنا. كان معنى الهزيمة الاستراتيجية، في ذلك الوقت، صعود الإسلام السياسي، ونجاحه، كدليل على مرض الوطنية الفلسطينية. وإذا كان الكثير من تداعيات الهزيمة الاستراتيجية قد تجلى على مدار كل تلك السنوات، فالغرض من استدعائها، اليوم، لفت الأنظار إلى حقيقة أن للهزيمة، إذا كانت استراتيجية، حياة مستقلة، فهي ليست حدثاً ثابتاً في المكان والزمان، بل كينونة حيّة لا تكف عن الحبل والولادة، ولا نكف عن تسديد ما تراكم من فواتيرها.
ومادام أوضحنا الغرض، فلنفكر في تجليات متأخرة (لن تكون الأخيرة) للهزيمة، ومنها أن الإسلام السياسي، بعد داعش، أصبح عبئاً على الكثير من حواضنه الأيديولوجية، وروافعه المالية والإعلامية، في الإقليم والعالم. هذا لا يعني أنه لم يعد ورقة، بل يعني أن تكلفة اللعب بالورقة أصبحت عالية، ومحفوفة بالمخاطر. ويحدث، الآن، أن يختصم به وعليه الفاعلون في الإقليم وخارجه: مَنْ معه، ومَنْ عليه، بطريقة فاضحة وغير مسبوقة، بالتحديد لأن تكلفته أصبحت عالية.
وبلا استغراق في التفاصيل، فلنقل إن في مجرد الوصول إلى وضع كهذا ما يعني أن البعض (ونعني بالبعض ميليشيات، ودولا، وقضايا) يمكن أن يضيع «بين الأرجل»، فمصيره في أفضل الأحوال، مُعلّق بمصير آخرين يمكنهم التفاوض به وعليه، وتقديمه كدفعة على الحساب. ألم تقل العرب: أنج سعد فقد هلك سعيد. مضامين هذا القول الأخلاقية والسياسية رديئة تماماً. ولكن مَنْ قال إن الأمثال لا تعبّر عن حقائق ثقافية ونفسية غائرة أحياناً؟
على أي حال، على خلفية كهذه يمكن تأمل حكاية حماس مع قطر، وإيران، وتركيا، ومصر، والسعودية، وغيرها. لكل هؤلاء مصالح وحسابات تتآلف حيناً، وتتنافر أحياناً. وبلا استطراد في التفاصيل، أيضاً، ضاعت غزة «بين الأرجل». فكل حروبها منذ وقوعها في قبضة حماس كانت جزءاً من لعبة لا ناقة لفلسطين، شعباً وقضية، بها ولا جمل. والمشكلة، أيضاً، أن محاولات حماس للبقاء طافية، على سطح الماء، تجذب ما تبقى من فلسطين إلى القاع.
أعرفُ أن نقد السلطة الفلسطينية من أكثر أنواع الرياضة الوطنية شيوعاً في بلادنا هذه الأيام وقبلها، ولكن من المُرجّح أن السلطة قدّمت تنازلات مؤلمة، (ضرورة محاكمة الانقلابيين، مثلاً)، كثمن لاستعادة غزة مع حماس لا من دونها. في تحليله لمأساة إبليس كتب صادق جلال العظم عن التناقض الوجودي بين الأمر والمشيئة. فالأمر أن ينصاع، والمشيئة ألا يفعل.
وإذا نجحت السعودية، مع ترامب، وإسرائيل، وبقية الحلفاء الإقليميين والدوليين، في تصنيف حماس كجماعة إرهابية، ستجد السلطة نفسها كإبليس، فلا هي في وضع يسمح بالعصيان، لأسباب سياسية وعملية معقّدة، ولا في وضع يسمح بالتمرّد على مشيئة ومشاعر قطاع واسع من شعبها، لأسباب سياسية ووطنية وتاريخية لا تقل تعقيداً. وأغلب هذا القطاع لا يؤيد حماس، بالضرورة، ولكنه يرفض إملاءات كهذه. لسنا في زمن الحرب الباردة، وقد خرجنا منها في معسكر المهزومين. العين، اليوم، بصيرة، واليد قصيرة، ومأساة السلطة، أنها تُعاقب، إذا عصت وإذا قبلت، ومقابل ماذا: جماعة انقلبت عليها، وناصبتها العداء.
مهما يكن من أمر، ثمة نقلة استراتيجية لم تتضح معالمها بعد، ولكنها تتجلى في مؤشرات توحي أن إسرائيل قلبت مبادرة السلام العربية رأساً على عقب، فبدلاً من تأجيل الاعتراف العربي بإسرائيل إلى ما بعد «الحل» مع الفلسطينيين، يريد الإسرائيليون، الآن، أن يكون «الحل» مع العرب مقدمة «للحل» مع الفلسطينيين، ضمن ترتيبات إقليمية ودولية تتجاوز معادلة الأرض مقابل السلام، وحل الدولتين.
وهذا، أيضاً، ينسجم مع تصوّرات ترامب (إذا كانت لديه تصوّرات أصلاً) بشأن صفقة شاملة في موضوع الصراع الفلسطيني والعربي ـ الإسرائيلي. وقد نجح، حتى الآن، في نقل مفردات الحل من قاموس السياسة إلى لغة البزنس. بمعنى أكثر عمومية، في ظل فراغ القوّة، والتنافس على دور القوّة الإقليمية الكفيلة بسد الفراغ، وإحداث قدر من التوازن في الإقليم (بعد هبوط مصر والعراق وخراب سورية) لم يبق من أقوياء سوى تركيا وإيران وإسرائيل، التي تريد للحل مع العرب أن يكون مدخلاً لقبولها، والاعتراف بدورها في الإقليم.
وفي هذا، أيضاً، ما يمثل غواية من نوع خاص لقوى نافذة في العالم العربي. وطالما أن الصراع على ملء الفراغ قد هبط إلى درك التقسيم والانقسام المذهبي والطائفي، يبدو جلوس الإسرائيليين على المقعد «السنّي»، في سياق «صفقة» شاملة، تحصيلاً للحاصل.
وإذا كان من الضروري التعبير عن تحفّظات كثيرة بشأن أوهام واستيهامات جلوس إسرائيل على المقعد «السني»، فمن الضروري، أيضاً، التذكير بحقائق من نوع أن الفلسطينيين، شعباً وقضية، على طاولة الأتراك والإيرانيين ليسوا أكثر من ورقة للمساومة والمقايضة. ويبقى أن ما ينبغي إسقاطه من الحسبان، بالمطلق، التفكير في قطر، ومَنْ في وزنها، في سياق الكلام عن موازين القوى في الإقليم.
ولنعد إلى الهزيمة الاستراتيجية. ففي ظل تحوّلات كهذه، تبدو حماس، الساعية إلى دولة غزة، عبئاً على الفلسطينيين، شعباً وقضية، وإذا كانت غزة قد دفعت الثمن الأكبر لعبء كهذا حتى الآن، فإن ما يشهده السباق على موقع القوّة الإقليمية من ضراوة، وأوهام واستيهامات، وذبح أبقار كانت، حتى وقت قريب، تبدو مقدّسة، وما يستدعي من تسديد فواتير تراكمت، يُخرج المجاز الإبليسي من كتب الفلسفة إلى واقع في السياسة، وعلى الأرض. وهذا من «بركات» حماس.
«بركات» حماس..!!
التعليقات مغلقة