شريف الشافعي
مغامرة أخيرة، خاضها الشاعر والناقد المصري شريف رزق (1965-2017)، صباح الأربعاء 14 يونيو/حزيران، تمثلت في مصافحته كائن الموت، ذلك الرفيق الذي ربما يكون قد اختطف جسد الشاعر، لكنه أبدًا لن يأخذه من وهج قصيدته وقلوب قرائه ومحبيه.
نزيف مفاجئ في المخ، أعقبه بيومين رحيل صادم للحداثوي المغامر، شعرًا ونقدًا، شريف رزق، ابن مدينة «منوف» بدلتا مصر، التي أبى المبدع إلا أن تحتضنه في لحظة الختام، قابعًا في أحد مستشفياتها «العامة»، مثلما احتضنت المدينة ذاتها صرخة ميلاده الأولى منذ 52 عامًا.
غياب شريف رزق المباغت، قصيدة برقية وامضة، من مثل ما شكلته أصابع رجل جيل الثمانينات المتوهج. وقد وصف اﻷمين العام للمجلس اﻷعلى للثقافة بالقاهرة، الدكتور حاتم ربيع، الراحل في نعيه بأنه «فقيد الحركة الشعرية من جيل الشباب، صاحب الحضور الفعال والأعمال المتميزة»، في حين تلعثمت الكلمات الدامية على لساني «قصيدة النثر» و»النقد الطليعي» في نعيهما لأحد أبرز مناصري التجديد من جيل الوسط بمصر.
رزق يعد صاحب المنجزات اللافتة في الشعر والنقد، ومنها “لا تطفئ العتمة”، “هواء العائلة”، “شعر النَّثر العربيّ في القرن العشرين”، “الأشكالُ النَّثرشعريَّة في الأدبِ العربيّ”، “شعريَّة الحياة اليوميَّة والخطاب الشِّفاهيّ في قصيدة النَّثر العربيَّة الجديدة”، “شعريَّاتُ مَا بَعْدَ ‘شِعْر’.. قصيدَةُ النَّثرِ العربيَّةِ في السَّبعينيَّاتِ والثَّمانينيَّاتِ”، “تحوّلات القصيدة العربيَّةِ عَبْر العصور”، وغيرها.
إلى جانب جهوده الملموسة في ميداني الشعر الجديد والنقد، ثمة وجه آخر من وجوه التميز لدى شريف رزق، يتمثل في الاستقلالية والزهد والاستغناء والعصامية. لقد اختار الشاعر مسلكه منذ البداية، مراهنًا على فردانيته وانعزاله في مدينته الهادئة، خارج ضوضاء العاصمة وبريقها المخادع. نأى رزق بنفسه عن مغريات المؤسسة الرسمية وكل ما هو سلطوي، مديرًا “معاركه الجمالية” بحرية تامة وفق قناعاته الخاصة، التي ربما يختلف معها البعض، من تيارات أخرى.
لكن لا يتشكك أحد في نزاهتها. لم يستمر شريف رزق طويلًا في عضوية “لجنة الشعر” بالمجلس الأعلى للثَّقافة، لإحساسه بأن التوجه الرسمي غير منحاز للحركة الشعرية الجديدة بالقدر المأمول، لكنه لم يغلق باب التعامل “الطبيعي” مع مؤسسات الدولة. ومن ثم فإنه قبل تكريمه من جانب “المؤتمر العام لأدباء مصر”، في ديسمبر/كانون الأول الماضي 2016، لدوره في إثراء الحركة النّقدية المصريَّة.
في تجربته الشعرية، يراهن الشاعر شريف رزق على التوقد دائمًا، حيث تعدّل الكائنات والأشياء من وضعياتها، وتتشكل بتفجراتها المتلاحقة في كينونة جديدة، ومن ثم فإنه في “مجرة النهايات”، على سبيل المثال، يقترح ذاته كبداية محتملة، للحراك الذي سيترتب عليه كل تغيير، حتى ولو بدا هذا الحراك للرائي بمثابة انهيار ظاهري: “ابدأوا بي/ مِنْ هُنا/ بي/ بانفجاري/ بالانهيارِ الذي يتعثَّرُ في سردِهِ على أنقاضه/ بي/ مِنْ هُنا/ مِنْ جنازةٍ تستندُ على عظامي/ شاردة”.
هذا التشظي للذات الفاعلة، هو استدراج للمشهد، كي يتعدل وفق البصيرة الرائية للمستقبل، بعد ابتداء الفراغ، وتفتت الأمكنة.
هكذا آثر الشاعر، منذ بداياته الشعرية، أن يمضي وحده، إذ لا مجال لما هو جماعي في ظل هذا التشرذم والتفتت والانهيار.
أما في تجربته النقدية المتمحورة تقريبًا حول التنظير لقصيدة النثر، المصرية والعربية، وتحليلها فإن الباحث شريف رزق كان محاربًا أكثر وضوحًا وجسارة، وربما أكثر شراسة، إذ لم يكن يستخدم مجازات الشعر في هذه المرة، إنما راح يضع الكلمات في موضعها المباشر.
• نفض الأقنعة السياسية
لم يترك شريف رزق عش دبابير إلا وخاضه، في كتاباته وآرائه النقدية، ويُلاحَظ أن المحرك الدائم لتجربته هو المنطق الخاص، ورفض الزيف والادعاء، بالإضافة إلى رغبته في نفض الأقنعة السياسية، والسلطوية على وجه العموم، التي أفسدت كل شيء.
في خضم الحروب الدائرة حول واقع “قصيدة النثر”، المصرية والعربية، سار شريف رزق كثيرًا ضد التيار السائد، مواجهًا مرجعيات مركزية في هذا الضمار، منها على سبيل المثال نبوءة سوزان برنار، التي رأت فيها أن هذا النوع الشعري (قصيدة النثر) سيذوب في الأنواع الأدبية المجاورة، إذ رأى رزق أن “القيمة الشعرية في خطاب قصيدة النثر هي القيمة المهيمنة على شتى الآليات، التي تنفتح عليها، في تفاعلها مع شتى الفنون؛ القولية والبصرية”.
وبلغ احتفاء شريف رزق بقصيدة النثر العربية مداه، بوصفه إياها بأنها “انتشلت الشعرية العربية في الوقت المناسب، فهي النوع الشعري الأكثر حرية وتعبيرًا عن العصر”.
شريف رزق، 25 عامًا من الانتصار للشعر الجديد، والنقد الطليعي، أسفرت عن مؤلفات بارزة، هي آثاره الباقية أبدًا، وظلاله المضيئة التي لا تمّحي على الأرض.
*نقلا عن موقع ميدل ايست اونلاين