شكري المبخوت
كان عليّ، خلال إشرافي على معرض تونس الدولي للكتاب في دورته الأخيرة، أن أجيب الصحافيّين من تونس وخارجها على مجموعة من الأسئلة المتكرّرة من قبيل جديد هذه الدورة وحجم المشاركات وردود الفعل على البرنامج الثقافيّ. بيد أنّ أكثر الأسئلة تردّدا اتّصل بأزمة الكتاب والقراءة.
كان السؤال يطرح كما لو أنّ هذه المناسبة السنويّة لسوق الكتاب متناقضة مع واقع الأمّيّة المتفشّية بكل مظاهرها وتراجع القراءة وغزو الكتاب الرقميّ وحالة النشر العربيّ. وأحيانا كان السائل يضمر موقفا يرى في استمرار هذا التقليد عندنا بعض العبثيّة الممزوجة بشيء من اليأس والقنوط من تجاوز الوضع الثقافيّ العامّ المتردّي.
والمفارقة أنّ الإقبال على المعرض هذه السنة كان أكبر من العادة. إذ كنت ترى طوابير طويلة تذكرنا بملاعب كرة القدم أثناء لقاءات الجوار أو الحفلات الموسيقية الترفيهيّة. وكانت حركة البيع والشراء دؤوبة رغم ضعف المقدرة الشرائيّة لكن الأرباح تخطّت التوقّعات. فانقلبت سوق الكتاب إلى مكتبة كبرى تؤكّد أنّ لما سمّي بأزمة القراءة وجوها أخرى تحتاج إلى تدبّر.
فهل يكفي التذكير بالمؤشّرات المخجلة عن نشر الكتب والترجمة ومعدّلات القراءة في العالم العربيّ كلّه أو في هذا البلد أو ذاك في ضرب من الاستياء كثيرا ما ينقلب إلى جلد للذات وبثّ لليأس في واقع عربيّ محبط؟ هل يكفي وصم الثقافة العربيّة الآن بالردّة والتراجع مع ما يلاحظ من هيمنة الكتب التراثيّة والدينيّة وتحديدا ما كان منها محرّضا على الكراهية والعنف، مناقضا لقيم الحريّة والتسامح والعيش المشترك؟ فماذا نفعل إذن بالإنتاج الجيّد تأليفا وترجمة وإبداعا وتفاعلا مع أسئلة العصر؟ هل صار ممّا يحفظ ولا قياس عليه؟
أكبر ظنّي أنّ الأخطر من هذا الذي تفرضه الوقائع العنيدة في ثقافتنا العربيّة هو العجز عن صنع الأمل. ولا يكون الأمل بما فيه من تعلّق بالآتي إلا استنادا إلى مؤشّرات الراهن. وهي مؤشّرات ليست سلبيّة على ما نراه من إطلاق حين ننقد البؤس المعمّم في مجتمعاتٍ فقدت القدرة على الإبداع الرمزيّ والحضاريّ.
أفلا يجدر بنا أن نتساءل عمّا وضعنا من سياسات في مجتمعاتنا للكتاب والقراءة بدل تعليق تراجع القراءة على مشجب الأميّة أو نفور الناس، في عالم الفرجة والعصر الرقميّ، من المطالعة والشغف بالكتاب أم أنّنا نتذكّر مآسينا في هذا الباب بمناسبة المعارض؟ لم لا ننطلق من الجوانب الإيجابيّة التي تدلّ على أنّ للكتاب، لدى قطاعات محترمة من النساء والشباب بالخصوص، مكانةً ما؟
لقد التقيت في مناسبات كثيرة بمجموعات للقراءة في ما تيسّرت لي زيارته من البلدان العربيّة علاوة على تونس. فقد دعاني مرّة شبّان يجتمعون شهريّا للحديث عن مطالعاتهم وتبادل الكتب والتحاور مع الكتّاب. بل إنّهم اتّخذوا من الشبكات الاجتماعيّة، وهي عادة ما تتّهم بأنّها من أسباب العزوف عن القراءة، منصّةً للقاء والتعارف حول الكتاب ومن أجله. ثمّ اتفقوا على «احتلال» المقاهي وفرض النقاش حول الكتب فيها. فكان روّاد المقهى العاديّون، وقد تفاجأوا بحضور هؤلاء الشبّان وارتفاع أصواتهم، سرعان ما ينتبهون إليهم ويصغون إلى حديثهم عن الكتب التي قرأوها بالعربيّة والفرنسيّة والإنكليزيّة. وشخصيّا اكتشفت عناوين كتب جميلة لم أسمع بها من قبل. ثمّ علمت أنّ هذا التقليد بدأ يغزو المدن التونسيّة وحتّى القرى.
وكنت منذ حوالي سنة ونصف بالمنامة لإلقاء محاضرة في مركز الشيخ إبراهيم، فأعلمتني المسؤولة عن البرامج أنّ مجموعة من السيّدات السعوديّات اللاتي انتظمن في ناد للقراءة قادمات من منطقة قريبة من البحرين للتحاور معي حول بعض ما كتبت. وما أذكره الآن من هذا اللقاء تلك الجدّيّة في النقاش والعمق الذي ميّز جلّ التدخّلات والشغف المذهل بالأدب مع معرفة وخبرة بالرواية ومعالمها الكبرى.
وقبل ذلك كانت اللقاءات سنة 2015 في معرض أبوظبي للكتاب مع مجموعات القارئات اللاتي يلتقين المرشّحين في القائمة القصيرة للجائزة العالميّة للرواية العربيّة مفاجأة سعيدة بالنسبة إليّ. فعلاوة على أنّهنّ اطّلعن على جميع الروايات وما رشح من نقاشهنّ من حماسة ومحبّة للأدب، وجدت جرأة في النقاش وشجاعة في الإصداح بالرأي بدا لي أنّهما أحرجتا المنظّمين أمام ضيوفهم من الكتّاب أكثر ممّا أحرجتني شخصيّا. فقد انبرت إحدى المناقشات لروايتي تنقدها وجوها من النقد وتقارنها بأعمال أخرى في القائمة القصيرة لتبرهن على أنّها غير جديرة بالبوكر. كان حبّ الأدب والشغف بالمطالعة والشجاعة في إبداء الرأي أهمّ عندي من الدفاع عن كتابي أو مناقشة رأي فضلُه التأكيدُ على أنّ الأدب تفاعل ومشاركة ولا معنى للإجماع فيه.
قد لا تمثّل هذه المبادرات المدنيّة المختلفة، وغيرها ممّا لم نذكر من قبيل بعض السياسات الرائدة كمبادرة تحدّي القراءة الإماراتيّة، الجانبَ الطاغي من إشكاليّة القراءة والكتاب في العالم العربيّ ولكنّها تقول لنا أمرا بسيطا جدّا: من هنا يبدأ الأمل وعلى مثلها يمكننا أن نبني إن كنّا صادقين. أمّا التباكي والتشكّي والتبرّم وجلد الذات فلم تفتح يوما نافذة للأمل.
* نقلا عن موقع ضفة ثالثة