كتابة عمود الرأي في الصحافة الرصينة، هي من تخصص نوع من الكتّاب، الذين يتمتعون بقدرة على سبر غور الأحداث والوقائع، وبالتالي عزل ما هو عابر عن ما هو جوهري وأساسي فيها، استناداً لما يمتلكونه من خبرة وثقافة ووعي عميق. ومن خلال تصفحنا لما تنشره الصحف والمطبوعات، وما تبثه الإذاعات والفضائيات مما يطلق عليه بـ (أعمدة الرأي)، ندرك مدى اغتراب هذا التخصص عن وظيفته الحيوية في مضاربنا المنكوبة، إذ القسم الأعظم منها لا يمت بصلة لأبسط متطلبات ذلك التخصص الخطير والدقيق. الدول والمجتمعات المستندة الى هرم اولويات ومعايير سليمة ومتوازنة، تدرك جيداً مكانة ومنزلة مثل هذه المواهب والخبرات، التي تقدم المشورة والفكرة المتناغمة ومسار الأحداث وما تفرزه من تحديات واقعية، لذلك نجدهم (كتاب الرأي) يحظون باهتمام واحترام من قبل مراكز البحث والمؤسسات العلمية وأصحاب القرار في تلك البلدان، لما يمتلكونه من قدرات واستعداد في تحليل الأحداث واستشراف الآفاق المستقبلية ونوع المخاطر والتهديدات الممكنة، وهم في مواقفهم لا يجاملون أحداً مهما كان موقعه وتأثيره، ولا يفتلون عنق الحقائق والأحداث وفقاً لذائقة ومشيئة القوى والمصالح المهيمنة، بل يطرحون آراءهم العميقة بكل شجاعة ومسؤولية.
في ظل الخلل الفاضح في المعايير والموازين، وصعود قوى التخلف والتشرذم والضحالة (أوباش الريف وحثالة المدن) الى المفاصل الحيوية للمجتمع والدولة؛ تقلص دور ونفوذ أصحاب الرأي والفطنة، عندما جرى إبعادهم تدريجياً عن مواقع القرار والمشهد العام للبلد، لصالح المخلوقات التي تجيد نقل عدتها ومدوناتها من كتف الى كتف آخر. لقد ترافق هذا الخلل البنيوي مع واحدة من أفضل الفرص التي أتاحتها الأقدار لنا، في مجال الحريات والتعبير عن الرأي، حيث ظهرت الى الوجود بعد زوال حقبة (إذا قال فلان قال العراق) مئات الصحف والمطبوعات وعشرات القنوات الفضائية والإذاعية ومواقع التواصل الاجتماعي وغيرها من وسائل التعبير عن الرأي. لذلك انحرفت هذه الفرصة عن مساربها الطبيعية وابتعدت عن أهدافها في إيصال المعلومة الصحيحة والوعي العميق للمتلقي، إذ أسهمت أغلبها في نشر وترسيخ روح التشرذم والتخلف وعدم الثقة بين العراقيين على أساس “الهويات القاتلة” وسكراب سردياتها، التي ألحقت أبلغ الضرر بما تبقى من المشروع الوطني والحضاري، والذي رسم ملامحه الرعيل الأول من أهل الحصافة والرأي.
ان التطفل الهائل على مثل هذه التخصصات الحيوية، قد أسهم في اتساع مساحة المتاهة والضياع في المشهد الراهن، حيث انبرى هؤلاء للتصدي لمهمة إبداء الرأي حول أخطر القضايا والملفات، وعندما نتفحص كل ذلك الطفح الجمعي الذي يضخ خطاباته وتصوراته الى الحشود التي تعرضت الى أبشع برامج التجهيل المعرفي والقيمي طوال عقود من الهيمنة المطلقة لأبشع توليتارية عرفها تأريخ المنطقة الحديث؛ ندرك شيئاً من هيروغليفيات المشهد الغرائبي الحالي. من دون المواقف الشجاعة والمسؤولة لا يمكن التحدث عن وجود (الرأي) بالمعنى الواسع للكلمة، فلا جدوى من امتلاك الديباجات والمهارات اللغوية والألقاب الأكاديمية من دون ذلك الشرط الأساس المقرون بالمراس الشخصي والوعي العميق. وهذا ما دونته التجربة والحكمة الشعبية عبر عبارتها المكثفة (فاقد الرأي لا يعطيه)..
جمال جصاني
فاقد الرأي لا يعطيه
التعليقات مغلقة