نحو مجتمعات الحاجة

عادل عبد المهدي
وزير النفط السابق
يمر العالم على الاغلب بمرحلة انتقال كبرى.. تماماً كما انتقل من النظم العبودية لنظم العمل الحرة والاجيرة.. ومن مجتمعات حد الكفاف لمجتمعات الاستهلاك المتقدمة، ومن الحرفية للثورة الصناعية والتكنولوجية والادارية والاتمتة والاتصالات، الخ.. ولعلنا نقف اليوم على اعتاب نقلة كبيرة تعيد تكييف العلاقات ومفاهيم عديدة اهمها العمل، والتي تنتج تناقضات لا يمكن احتواؤها بانماط العلاقات الراهنة. كالتناقض بين انماط الاستهلاك المترفة والفقر المدقع، والانتاج الوفير والجوع القاتل، والطبيعة وارتدادها، والانحباس الحراري والاثار البيئية، والهوة بين الجنوب والشمال، والتكاثر السكاني والبطالة والهجرات والتصدعات الاجتماعية التي تفرز ظواهر جديدة تحتاج لحلول جديدة. محرك هذه النقلة تطور التكنولوجيا ومجتمعات «الروبو» والعمل الالي والعلوم والهندسة الجينية والاتصالات والتقدم الصحي والفضائي، الخ، وآثارها على زيادة الانتاج والرفاه من جهة وزيادة البطالة والفقر من جهة اخرى، داخل المجتمع الواحد وبين الدول والمجتمعات.. وما تطرحه هذه كلها من صراعات جديدة لم نعرفها من قبل، والحاجة لحلول جديدة لم نرها سابقاً ولا تحتويها العلاقات الراهنة، ولا مفاهيمها وقيمها.
قد تثير هذه التصورات استغراب البعض، ويتصورها ضرباً من الخيال العلمي، لكن المجتمعات مرت بمثل هذه التغيرات عشرات ومئات المرات، وخرجت من ازماتها واعادت تكييف نفسها. ونعتقد ان الامم متجهة خلال العقود المقبلة نحو مجتمعات توفير الحاجات الاساسية بدل مجتمعات لكل حسب ربحه او عمله.. اذ قادت العوامل اعلاه لانفصال كبير بين القاعدة الشعبية وطبقة الاغنياء والمؤسسة الحاكمة.. او بين الشمال والجنوب. ولا يمكن اعادة التوازن والاستقرار النسبي باشكال الضبط الجارية والقديمة، او الصراعات حيث لا يربح طرف الا بخسارة طرف آخر. لابد للمنظومة والتوازن الجديدين ان يحققا الربح للجميع ولو باختلافات نسبية.. فاذا كان العالم السابق عالم انتاج، فان العالم الجديد عالم توزيع، بسبب تطور العلوم والتكنولوجيا، وزيادة الانتاج -ومنه الغذائي ووسائط العيش الرئيسة- على الاستهلاك والمتطلبات الاساسية، وهو ما يسمح بتحقيق مجتمعات الحاجة. وقد كتب اقتصاديون كبار كـ»ميلتون فريدمان» (نوبل 1976) ان افضل طريقة لتلافي صراعات الفقر والبطالة هي توفير دخل ثابت مطمئن للمواطنين بغض النظر عن عملهم. وسيقلل الاطمئنان المعاشي من الطابع القسري للعمل، ويفتح مجالات العلوم والفنون والدراسة والاعمال المبدعة والعلاقات، وبالتالي فرصاً ومجالات جديدة للعمل والانتاج والحياة.
بدأت بعض الدول ومنها فنلندا بتجربة تطبيق «الدخل الاساس»، برغم بعض الانتقادات بانها ستشجع التضخم او الكسل. فاختارت عشوائياً مواطنين ستمنحهم 560 يورو شهرياً، سواء اكانوا اصحاب دخول او عاطلين، وستدرس النتائج.
سيقول البعض، ما لنا وهذا النقاش؟ فهذه مجتمعات متطورة.. فلنصلح اولاً ابواب بيوتنا، ونوفر فرص العمل لمواطنينا، ونقدم الحد الادنى من الخدمات، وننهي ارهاب «داعش» ونصالح انفسنا والاخر، ونعيد للاقتصاد حيويته، ونعيد بناء الدولة والمجتمع، ونطوق الفساد والطائفية والمحاصصة، قبل ان نناقش هذه المسائل. وجوابنا، هذا صحيح، ولكن من يدرس تطور البلدان سيجد ايضاً ان التقدم والتغيير لا يحصلان فقط بهذا الفهم التراتبي، والمعزول. فالدول التي تتقدم لا تمر بالضرورة بجميع مراحل الدول المتقدمة، بل تستثمر ازماتها وانجازاتها. وان نظرة للخارطة الاقتصادية التاريخية للعالم ستشير ان الامم التي كانت متأخرة تحولت بسرعة نسبية لدول متقدمة، والعكس صحيح، كما يؤكد «اندرية كوندر فرانك». وهذه دورات مرشحة للتكرار مجدداً، عبر تغيرات كبرى وسريعة غيرت حياة الكثير من المناطق المأزومة والفقيرة، والتي لم تنجز كل الاشكالات والمستلزمات المطلوبة، قبل استقبال التطورات الجديدة، كما تشهد تجربة الكثير من الدول الاسيوية المعاصرة.
ان جزءاً من تمليك سهم لا يباع ولا يورث من موارد النفط هو لتوفير «الدخل الاساس» لكل المواطنين بغض النظر عن عملهم. وهذا ليس بديلا لسياسات الرعاية والدعم، بل كممارسة جديدة سنضطر لانتهاجها عاجلاً او اجلاً، لحل قضايا البطالة وصراعات الفقر والغنى، ولاعادة بناء العلاقات الاقتصادية الاجتماعية القادرة على قيادة البلاد للامام. فمجتمعات الحاجة كانت حلم البشرية والنظريات المثالية والمادية على السواء.. يقول امير المؤمنين (ع): «ان الله سبحانه فرض في أموال الاغنياء أقوات الفقراء».. فهذا فرض، وليست مكرمة، ومنّة، وعدواناً.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة