قبل مئة عام وعشية انهيار الأمبراطورية العثمانية، كان العراق الحالي والذي تشكّل من الولايات العثمانية السابقة (بغداد والبصرة والموصل) محدوداً ومتواضعا في إمكاناته المادية والبشرية، إذ عدد سكانه لم يكن يتجاوز الـ (5) ملايين نسمة، لكن مع ولادة العراق الحديث العام 1921 برزت للوطن (الجديد- القديم) ملامح أخرى بعد أن أتيحت لسكانه فرصة الكشف عن إمكاناتهم ومواهبهم التي طمرتها قرون من هيمنة قوى الاستبداد والتخلف. صحيح أن النظام الملكي الذي جاء مع الانتداب البريطاني والذي جلب لنا ملكاً من الحجاز؛ لم يكن مثالياً ولا سيما في أعوامه الأخيرة، إلا أنه شقّ الطريق أمام قوى الحداثة كي تضع بصمتها على مؤسسات الدولة الجديدة، تطلعات لم توفق الإجراءات التي اتخذها نوري السعيد لكبحها وحسب بل دفعتها الى اللجوء للسبل الثورية والتي أطاحت في نهاية المطاف بالنظام الملكي، لتؤسس على أنقاضه ما عرف بـ (الجمهورية الأولى) والتي شرعت الأبواب ولأول مرة بعد قرون من التخلف والاستبداد أمام سكان هذا الوطن القديم، كي يكشفوا عن مواهبهم وإمكانياتهم في الخلق والإبداع. لكن وكما هو حال حركة الحياة والمجتمعات، غالباً ما يرافق صعود وتطور الإمكانية الإيجابية، نمو أخرى متنافرة وتلك التطلعات، حيث يحتدم الصراع حتى يحسم لصالح إحداهما، ومن سوء حظ هذا الوطن وأهله أن تتحول الإمكانية السلبية الى واقع، ليتم اغتيال ذلك المشروع الذي أيقظ أجمل وأبهى ما لدى العراقيين من استعداد وقيم، طمرتها طويلاً عصور التخلف والظلام.
بعد زوال “جمهورية الخوف” ربيع العام 2003 شرعت الأبواب ثانية أمام العراقيين، كي يستردوا ملامحهم وقيمهم التي تعرضت لانتهاكات لا مثيل لها زمن النظام المباد، هذه الفرصة التأريخية واجهت صعوبات عديدة، أهمها الخلل الكبير في الاستعدادات الذاتية للتغيير، حيث دفعت شروط الحروب المتتالية والحصار وحملات القمع الممنهجة ضد كل أشكال المعارضة السياسية، قطاعات واسعة من المجتمع للتقهقر الى ملاذاتها البدائية، بعد أن تقلصت الفرص أمام الأحزاب والتنظيمات الحداثوية لممارسة نشاطاتها بين صفوف قواعدها الاجتماعية، كما كان الحال في بداية تأسيس العراق الحديث. إن تعاظم نفوذ القوى التقليدية، والمهيمنة على المشهد السياسي الراهن؛ يتناغم والتقهقر الشامل الذي شهدته كل أشكال الحياة والنشاط، لذلك تعدّ مهمة تقويض هذه الأحزاب والكتل، أساسا لكل تحول وإصلاح جدي يمكن أن نشهده مستقبلا، لا سيما وأنها (الكتل المتنفذة) قد كشفت عن عجزها وفشلها في التصدي لمهمات استنهاض همم ومواهب المجتمع (أفراداً وجماعات) لمواجهة تحديات الانتقال صوب الديمقراطية والمؤسسات الحديثة. ما يحصل من مشاهد غرائبية وأعراض مرضية وانسداد في الآفاق، يعكس طبيعة مثل هذه المحطات المفصلية في حياة الشعوب والأمم “حيث القديم يحتضر والجديد لم يولد بعد” ذلك الوصف الدقيق لغرامشي لمثل هذه الحالات. جميع المعطيات والظواهر السلبية (إرهاب وفساد متعدد الأشكال) تعكس حجم التفسخ والتعفن الذي اكتسح القديم، ولن تجدي نفعاً محاولات البعض لإعادة تدوير أنقاضه وتسويقه مجدداً، كما تسعى الكتل المتنفذة حالياً. ما جرى على يد هذه القوى التقليدية طوال 14 عاماً، من هدر واستنزاف هائل في الإمكانات المادية والبشرية، يؤكد حقيقة عجزها في التعاطي مع الفرصة التأريخية الجديدة للتغيير، والى ضرورة فسح المجال أمام قوى الحداثة كي تنهض بمهمات مد الجسور ثانية مع تقاليد البناء والخلق والإبداع..
جمال جصاني
فرص تأريخية
التعليقات مغلقة