مع تصاعد حُمّى الأستعدادات للحملات الإعلامية والدعائية للأنتخابات أختارصديقي الفنان التشكيلي والأكاديمي في الدورة السابقة طريقاً مغايراً لحملته الدعائية الخاصة به و”عزفاً منفرداً” مخالفاً للجوقات الموسيقية الأخرى.. في محاولة لتجريب حظه للقيام بهذه الخطوة وفق رؤية متميزة وخطوات متأنية مدروسة ، بعد أن ضاقت به السبل.. وطفح به الكيل مما جرى ويجري من حوله ! كان حريصاً على أن لا تضيع جهوده ويخفت صوته وسط ضجيج الحملات الانتخابية ، ومع هذا كان يدرك بأن الطريق شاق ومحفوف بالمخاطر ومليء بالأشواك كما قال العندليب الراحل عبد الحليم حافظ ، ولعل أبرز التحديات التي تواجه حملته أيضاً هي ضعف إمكاناته المالية ومحدوديتها وفق نظرية “العين بصيرة واليد قصيرة” لكنه مع هذا وضع في حساباته بيع عدد من أعماله الفنية القيّمة بهدف توفير نفقات وتكاليف مهمته الوطنية من أجل إيصال رسالته الى أكبر عدد ممكن من الجمهور والمعنيين.. لأنه كان تواقاً للتغيير وليس غيره !
كان صاحبي الدكتور يعوّل أيضا على الدعم اللامحدود والإسناد الذي يلقاه من الأصدقاء والمهتمين الذين يشاركونه الهمّ الوطني والفني والذوقي .
هذا النشاط الأستثنائي .. أثار انتباه جاره الفضولي “أبوسعد” الذي كان ينتظره صباح مساء أمام داره ما ولَّد عنده هاجساً وقلقاً وإزعاجاً.. من جرّاء ملاحقة “الجار” له يومياً ليطرح عليه أسئلته المتكررة: “الله عليك.. أدري بيك رشحت للانتخابات… صارحني دكتور.. حتى نوكَف وياك.. تره.. حق الجار على الجار مو صحيح لو آني غلطان ؟ “.
يرد عليه الدكتور: “حشاك من الغلط .. بس شلون أنت عرفت آني رشحت للانتخابات؟”.
الجار أبو سعد : ” يمعود آني الكَفها وهي طايرة.. يومياً أشوفك تطلع من الصبح ومترجع إلا بالليل.. تعبان ومنهك القوى، شايل أوراقك وخرايطك وإضبارتك وصورك… وهذه أكيد من علامات المرشحين المفلسين – مستدركا – : “دكتور يرحم والديك.. صارحني ومثل ميكَول الموسيقار فريد الأطرش .. ارحمني وطمّني.. حصلت على تمويل للحملة الانتخابية.. منا… مناك… احجيلي تره آني مثل أخوك الجبير وأريد مصلحتك…؟”.
وقبل أن ينطق الدكتور بكلمة واحدة يواصل الجار حديثه: ” أعرف الانتخابات على الأبواب وأنت دتسعد للحملة الإعلامية.. يمعود أحنه جيران العمر.. جرّبنا وشوف شلون نبيضلك وجه آني وحدي أجيبلك آلاف الأصوات.. بس دكتور ديربالك علينا.. موتنسانا.. أخاف من تفوز بالانتخابات.. تصير عملة نادرة وبعد محد يشوفك بالمحلة.. بس نشوفك بالتفزيون لو بالجرايد.. وأنت تطلق التصريحات الطنانة والرنانة..!” ويظل يلح عليه الى أن يصل الدكتور الى منزله: “دكتور تره آني مستعد أصير مدير مكتبك.. حتى لو تريد أصير مسؤول حمايتك.. ريحني دكتور موفتيت كَلبي .. دكَولي.. بديت بالحملة؟”.
الدكتور: نعم ..!
الجار: “بس كَولّي دكتور.. شنو عنوان حملتك الانتخابية وشراح تكَول للناخبين…؟”.
الدكتور: عنوانها “زيلوها”!
الجار: وشنو معناها وشنو علاقة ” زيلوها ” بالانتخابات؟”.
الدكتور: بالعربي الفصيح يعني ” أزيلوها… أزال، يزيل، إزالة .. أي ارفعوها.. يعني.. خلصونا منها !”.
وقبل أن يطرح عليه سؤالاً آخر.. يعتذر منه الدكتور قائلاً: ” والله تعبان بعدين أحجيلك ”
ويبقى الحال هكذا.. يخرج الدكتور من الصباح ولا يعود إلا في ساعة متأخرة من الليل… كان يدرك أنها مهمة صعبة لكن ليست مستحيلة، وانصبت تحركاته واتصالاته مع الجهات المعنية ذات العلاقة من أجل حشد الأصوات الداعمة لحملته، وفي الطرف الآخر ظل جاره الفضولي يتابع تحركاته الحثيثة!
وفي أحد الأيام وقف له “الجار” بالمرصاد قائلاً : “دكتور شفتك بدائرة بلدية الرصافة… شعندك دكتور.. أكيد دتنسق ويه البلدية على اختيار المواقع المتميزة بالعاصمة حتى تخلي صورك وإعلاناتك الانتخابية.. أدري بيك ذواق مو بيدك..!”.
عندها نفد صبر “الدكتور”وصرخ بوجه جاره قائلاً : “عزيزي وجاري أبو سعد.. موفتيت كَلبي – أي قلبي – … اتركني بحالي وهمي.. آني الحملة مالتي.. مو للانتخابات… ارتاحيت؟” ويبدو أن جاره صُدِم بهذه الإجابة فتساءل: ” لعد دكتور إذا كل هاي الروحات والجيات مو مال انتخابات لعد مال شنو يابه؟”.
أجابه الدكتور: “الحملة اللي أقوم بيها… هي محاولة تخليص بغداد من العشوائيات الفنية اللي زحفت على الأبنية والساحات والشوارع والتماثيل واللوحات الفنية.. وشوّهت صورة هذه المدينة التاريخية العريقة المعروفة بالجمال والفن والذائقة والهندسة المعمارية ؟”.
أجابه الجار: ” يعني مراح تصير لا نائب ولا وزير… وآني مراح أصير مدير مكتبك ؟”.
قال الدكتور: “أكيد ..لا .. آني نذرت نفسي أعلّم طلابي شلون يحافظون – في زمن العشوائيات – على الذائقة الجمالية والبصرية والفنون والأصالة والتراث… لأن قيمتنا عند شعوب العالم بهذه الأشياء وهي اللي تميزنا عن تاريخ وحضارة الدول الأخرى !”.
كلام الدكتورالفنان .. لم يعجب “الجار الفضولي” الذي تركه غاضباً بدون استئذان… وهو يتمتم : “موآني كَلت من الأول.. انت مو وجه نعمة… خلي يفيدك الجمال والتشكيل وفن العمارة !”.
• ضوء
“المبدعون” هم وحدهم من تبدأ حياتهم وتتجدد.. حين ترحل أجسادهم عن عالمنا!
عاصم جهاد