الكتابة مسؤولية

حينما يقال بأن الكتابة اصبحت مشكلة بحد ذاتها بسبب ضياع (او اضطراب) قيم المسؤولية ازاء الكلمة، وسقوط الشهامة حيال القاريء فهو صحيح الى حد كبير وله ما يبرره.
الى جانب ذلك نشأت «حركة» بين اصحاب الكلمة الحرة تسعى الى حماية الكتابة من الابتذال والاقصاء والاخصاء لكي تكرس مكانها في مجرى النشاط الانساني، المعولم، والبالغ التعقيد،وذلك في تنافس مع اشكال النشاط الاخرى لخدمة صورة المستقبل.
اما الكتابة في السياسة على وجه الخصوص فقد تجاوزت تلك المتطلبات الى كونها، من جهة، ضرورة لتزييت ماكنة المصالح حتى في ابشع تطبيقاتها، ومن جهة اخرى، اصبحت مسؤولية باهظة الكلفة بالنسبة للكاتب، فلم تعد هي الاداة الوحيدة المتاحة لتصويب اتجاهات الاحداث، او خلاصاً له مما يحيطه من اسئلة، أو وقاية مما يداهمه من اخطار، او حلّا لاشكاليات التعامل مع الواقع في وقت يزداد هذا الواقع تعقيداً واحتقاناً.
فعندما حُرمت فيرجينا وولف من الكتابة واجبرت على العودة إلى مصحة الأمراض العقلية بدعوى عدم انسجامها مع المجتمع الذي كان يلزم عقل المرأة بالمشغولية النمطية في مسائل الإنجاب وتدبير المنزل، لم تجد بدًا من الانتحار. فقد جربت دون جدوى تحدي الحرمان من الكتابة، ولم تعد قادرة على مجرد التفكير بالعودة إلى المكان الذي سيسلبها حريتها في ممارسة حرفتها الوحيدة.
الكاتب البريطاني الشهير «سومرست موم» في كتابه (الخلاصة) يتحدث عن تكاليف الكتابة في زمن المسؤولية التي تحولت الى معنى التضحية من اجل قيم الحياة، وسجل «لقد وجدت نفسي على صفحات الورق، فمن يستطيع ان يرفعني عنها» وحين سئل الأديب والكاتب أورهان باموك الفائز بجائزة نوبل في الآداب هذا السؤال: لماذا تكتب؟ فقال: أكتب لأنني غاضب منكم جميعاً.. أكتب لأنني لا أستطيع تحمل الحقيقة إلا وأنا أغيّرها».
اما ارت بوكوالت، اشهر كاتب سياسي اميركي ساخر فقد كان يقول «على الكاتب ان يرفع نهايات بنطاله عندما يريد ان يخوض في السياسة» لكن العلم المدرسي للسياسة يقول ان كتاب هذا الميدان اقل انشغالا بذواتهم، لأن السياسة نفسها، خلاف أجناس النشاطات الاخرى، مطبخاً للظواهر والاحداث والتحولات والاسئلة التي تجري خارج الذات والرغبات والمشيئات وهي تعني البشرية والمجتمعات والطبقات، وان النص السياسي يظهر كما لو انه مكتوب بعقل الجماعة، او مكتوب الى الجماعة، فيما النص الادبي يبقى رهن مبدعه وشكل تفكير شخص واحد.
ومن هنا تتأكد اهمية ما قاله بوكوالت بوجوب الحذر حين يتعين على الكاتب الخوض في شؤون السياسة، الاميركية بوجه الخصوص، والتسبيب هنا واضح، ويتصل بالمسؤولية المباشرة حيال الاخرين بالنسبة للكتابة بوجه عام .. تلك المسؤولية التي يتحدث عنها كتاب الادب والشعراء بالقول: انا مسؤول امام نفسي . امام ضميري. امام صدقيتي.
**************
برتولد بريخت
«ليس شرطا أن تظل الأشياء على ما هي عليه لأنها كذلك الآن».
عبدالمنعم الأعسم

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة