الحقوق وعي

بالرغم من الألغام التي مررت بين بنود وفقرات الدستور العراقي الحالي، إلا أن ذلك لا يلغي حقيقة تقدمه على بقية الدساتير التي سبقته، وحجم الحقوق التي تضمنها وكفلها لسكان هذا الوطن الذي ابتلى بلعنة فقدان وضياع الحقوق والحريات. لكننا ما زلنا نعاني من عدم تحول الكثير من تلك الحقوق الى واقع معاش، فلا يكفي وجودها نظرياً بين دفتي القانون الأساس للدولة (الدستور) بل تحتاج الى شروط كي تصبح حقيقة ترافقنا في حياتنا اليومية، وعلى رأس الشروط؛ وعي تلك الحقوق والحريات، أو كما قال هيغل (الحرية هي فهم الضرورة). هذا الفهم أو الوعي لن نحصل عليه بين ليلة وضحاها، أو عبر أساليب التهريج وحرق المراحل وفق رغبات البعض من مغامري ومهرجي المشهد الراهن. الوعي كما هو معروف يمثل جوهر ومغزى عمليات بناء ونهوض المجتمعات والأمم، والبناء ليس كما الهدم، عملية مريرة تستلزم الكثير من الوقت والجهد، لذلك نجد الكثير من الحقوق التي تضمنها الدستور غير مفعلة، أو كما يقال مجرد حبر على ورق. ومن الأهمية بمكان الإشارة الى أمور أخرى غير الحقوق، مثل المؤسسات والتشكيلات والهيئات الحديثة التي صدرت الفرامين بتأسيسها ومنحها الصلاحيات الدستورية لممارسة وظائفها الحيوية، نراها وبالرغم من مرور أعوام على ولادتها، ما زالت عاجزة لا عن النهوض بمسؤولياتها وحسب بل تحولت الى عبء جديد على مشروع التجربة الديمقراطية الفتية. كل هذا يؤكد أهمية الالتفات الى حالة ركود الوعي وضحالته والتي لا يمكن لأي بديل آخر أن يحل محله، وما محاولات البعض لتقديم أنفسهم والعناوين الضخمة التي وسموها بها، بوصفهم المنقذ الذي أرسلته الأقدار لتفعيل “الحقوق التي كفلها الدستور” إلا وجه آخر لمحنتنا الوطنية وأعراضها المرضية لعقود من الخنوع والركود والتنازل الواسع عن الحقوق.
إن عملية استرداد الحقوق وإعادة دمجها بشتى جوانب حياتنا اليومية، عملية شاقة وطويلة ولا تفك طلاسمها تعويذة (حقوق كفلها الدستور) والتي أدمن على ترديدها غير القليل من نجوم المشهد الراهن، ولا سيما من تقمصته روح الرفيق ديمتروف في الوقت الضائع..! ما يجري اليوم من ممارسات ونشاطات تدعي تفعيلها لحقوقها النائمة بين سطور الدستور، تصب في الكثير منها في خانة الإساءة لتلك الحقوق التي وهبنا إياها الدستور الجديد، وإلا كيف نقرأ نتائج ما تمخضت عنه أكثر من خمسة أعوام من الاحتجاجات والتظاهرات الأسبوعية المتواصلة والتي تدعي مطالبتها بالتغيير والإصلاح؛ ما التغيير الذي حدث وما الإصلاح الذي حصلنا عليه؛ لا شيء سوى إعادة اصطفاف وتدوير لنفس القوى والمصالح المهيمنة مع شيء من الأكسسوارات والتسميات الجديدة والتي ارتفع رصيدها في بورصة المزاودات والدقلات الوطنية. لا أحد يشكك بحاجتنا لمواجهة الواقع المزري وحجم الفساد الذي بسط هيمنته على تفصيلات حياتنا، عبر جميع وسائل الاحتجاج المكفولة دستوريا وحضارياً؛ لكن هذا لا يدعونا لتحويل أحد أهم وأخطر تلك الحقوق (حرية التظاهر والتعبير عن الرأي) الى ما يشبه قميص عثمان تتلقفه المصالح السياسية والفئوية والشخصية الضيقة، لتمرير مطالبها البعيدة كل البعد عن مشاريع الإصلاح والتغيير التي لم تبدأ بعد على تضاريسنا المنكوبة بوعي تتقاذفه الهلوسات وأهازيج قوافل ما قبل الدولة ودساتيرها الحديثة..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة