حسن خضر
ينشر بالاتفاق مع صحيفة الأيام الفلسطينية
بأحد المعاني، لا يوجد للرواية كاتب واحد. و(هذا يصدق على أجناس أدبية غيرها) فعدد الكتّاب بعدد القرّاء.
تجد هذه الفرضية تفسيرها، وما يبررها، في حقيقة أن تصوير شارع مُظلم، أو حادثة في قطار، أو قبلة بين عاشقين (أضف ما شئت) لا تحدث في النص الروائي بعين الكاميرا، ولا تحاكي الصورة الفوتوغرافية. لذا، يبقى الكثير مما يُحرّض المُخيلة على ملء الفراغ.
تختلف هذه الدينامية من شخص إلى شخص آخر باختلاف طاقات المُخيّلة من ناحية، وحاجات صاحبها (صاحبتها) من ناحية ثانية.
وهذا يحدث، غالباً، بطريقة لا إرادية تماماً. فلنتذكر ما قرأنا في مراحل مختلفة من العمر، وكيف ألهبت شخصيات وأحداث بعينها خيالنا، وربما حرمتنا من النوم.
مع التقدّم في العمر، نفقد البراءة إلى حد ما، ولكن لا نمل من لعبة، وغواية، ملء الفراغ.
وثمة، هنا، ما يتجاوز فكرة التلصص على العالم الشائعة في نظريات النقد الأدبي، منذ زمن بعيد. فملء الفراغ يحوّل القارئ إلى فاعل وشريك. وفي هذا ما يمنح أجناساً سردية مُختلفة حياة تستقل عن أصحابها.
في تحفته «لاعب النرد» يروي محمود درويش كيف تأخر عن رحلة مدرسية، ونجا من حادثة طرق «لأني نسيت الوجود وأحواله/ عندما كنت أقرأ في الليل قصة حب/ تقمصت دور المؤلف فيها/ ودور الحبيب الضحية/ فكنت شهيد الهوى في الرواية/ والحي في حادث السير».
تنطوي عبارات كهذه على دلالات فعل ومشاركة القارئ في إعادة إنتاج النص.
عملية كهذه تتعدد بعدد القرّاء، وتبرهن على استقلالية النص عن صاحبه الأصلي من ناحية، وتفسر لماذا لا يقرأ اثنان نصاً واحداً بطريقة واحدة من ناحية ثانية.
بيد أن ثمة ما هو إرادي، أيضاً، إذا تجاوزنا مُخيّلة واستيهامات القارئ الفرد. وأعني بذلك القراءة الجمعية للنصوص، وهي محكومة بتبدّل الأزمان. فلنفكر في دون كيخوته، مثلاً، التي يُؤرّخ بها كثيرون لميلاد الرواية الحديثة.
فدون كيخوته تغيّر بطريقة راديكالية في أزمان مختلفة: من شخصية كوميدية، إلى فاعل خير، إلى بطل تراجيدي، وحتى إلى شبيه ليسوع أحياناً، وإلى شخص طيّب القلب، وغريب الأطوار.
ويمكن، اليوم، أن نقرأ دون كيخوته الشخصية والرواية بوصفها نقداً ساخراً لقصص الفرسان، الشائعة في القرون الوسطى، وخروجاً على التقليد، كما قرأ النقّاد العرب قصائد النواسي بوصفها نقداً ساخراً للوقوف على الإطلال، وخروجاً على التقاليد.
وهذا يحدث، دائماً، بطريقة مجازية. فلا قراءة جمعية للنصوص خارج المجاز. ولا مجاز دون، أو فوق، حساسية وحاجات زمن بعينه.
وقد أوكلت هذه الوظيفة على مدار قرون طويلة لقرّاء محترفين (نُقّاد)، استناداً إلى فرضية أنهم أصحاب مؤهلات، وخبرات، وأدوات تتجاوز دينامية ملء الفراغ الفردية، ودلالة فعل ومشاركة القارئ في إعادة إنتاج النص.
ولا أريد الاستطراد، في هذا الجانب، ففيه ما يفتح أبواباً كثيرة بشأن العلاقة بين المعرفة والسلطة من ناحية (فوكو، إدوارد سعيد)، وتقاليد وسياسة الطاقم المهني في هذا الحقل أو ذاك، والتوتر الدائم بين مركزه وهامشه، كما أجاد وأصاب ماكس فيبر في الكلام عنها وعنه من ناحية ثانية.
فالمهم، في هذا الشأن، أن نحتفظ في الذهن بحقيقة أننا نعيش، في ظل الثورة التكنولوجية، وانفجار وسائل التوصيل والاتصال والحصول على المعلومات، زمناً غير مسبوق.
والواقع أن الناس شعروا على مدار القرون الثلاثة الماضية بالعيش في زمن غير مسبوق، وعثروا على إجابات محتملة في تنوير القرن الثامن عشر، وعلموية القرن التاسع عشر، ويوتوبيا الخلاص، وأيديولوجياته الكبرى، في القرن العشرين.
ولكننا في العقد الثاني من قرن وألفية جديدين لم نعثر على إجابة محتملة بعد. وبقدر ما يتعلّق الأمر بالتقنية والتكنولوجيا المعروفة في القرون الثلاثة السابقة، وما غيّرت من طبيعة الإنسان والعالم، فكلها تبدو قليلة الشأن مقارنة بالتقنية والتكنولوجيا الحالية، التي قد تطيح بمعنى الإنسان نفسه، كما استقر عليه منذ اكتشاف الزراعة، وحتى يوم الناس هذا.
والمهم، أيضاً، في عالم اليوم، أي في ظل اللايقين، والعيش في الفترة الانتقالية بين عالم قيد الزوال، وعالم لم يولد بعد، أن شقوقاً وتصدعات كثيرة تتجلى في بنية المعرفة والسلطة، كما في تقاليد وسياسة الطاقم المهني.
لتوضيح أمر كهذا يمكن الاستعانة بما كتبه أميركي، تشارلز بيرس، ينعى حال بلاده في كتاب بعنوان «أميركا الحمقاء: كيف أصبح الغباء فضيلة في بلاد الأحرار» (2010): «في الميديا الجديدة الكل مؤرخ، وعالم، وواعظ، وحكيم. وإذا كان الكل خبراء فلا جدوى من وجود خبير. وأسوأ ما يحدث أن تكون خبيراً في مجتمع يتصرّف فيه الكل كخبراء. هكذا تتصرّف أميركا الحمقاء بطريقة جماعية، ملايين الضربات على لوحة المفاتيح، وإذا وُجِد جانبان لكل مسألة، فكلاهما يجب أن يكون صحيحاً، أو غير خطأ في الأقل».
تنبّه أورتيغا غاسيت إلى أشياء كهذه: إلى ما في كراهية «الجماهير» لفكرة التفوّق، وعبادتها لمبدأ المساواة، قبل شكوى بيرس بعقود طويلة.
كانت سوداويته في الفترة ما بين الحربين الأولى والثانية تبدو رجعية تماماً، وحتى في عقود متأخرة من القرن نفسه. ولكن في زمن الفيس بوك، وتويتر، ووضع قناع «الرأي والرأي الآخر» على وجه مَنْ إذا حضر لا يُعد، وإذا غاب لا يُفتقد، ثمة ما يبرر وضعها في إطار تحليلي جديد لفهم حقيقة وخلفية ما أصاب بنية المعرفة والسلطة من صدوع وتشققات، وانعكاس هذا كله على جزئيات صغيرة من نوع القارئ والرواية، وحماقة وغباء حروب الميليشيات الثقافوية في الميديا الجديدة.
ولعل في هذا ما يُحرّض على وعد بمعالجة جديدة لاحقة.
القارئ والرواية..!!
التعليقات مغلقة