إسماعيل زاير*
لم يذكر الحاكم الأميركي للعراق بول بريمر دور الإعلام او يخطط له ، الا في اربعة اسطر يتيمة في كتابه المكون من عدة مئات من الصفحات والمعنون « عامي في العراق « .. لقد تفاخر المساعد الإداري السابق لهنري كيسنجر بكل شيء صنعه في اثناء حكمه للعراق ولكنه لم يجد ما يتفاخر به في مجال دعمه للسلطة الرابعة او الوتد الرابع في بنيان الدول الحديثة ، بل انها السلطة الأولى المشاركة للإدارة كما تتشارك الضرائر في بيت الزوجية ويحسب لها المسؤولون الأميركان الف حساب . حتى تلك السطور كانت بمنزلة مرور عابر تسلل في اغلب الإحتمالات من احد التقارير التي قدمها سكرتيره كما يتسلل اليتيم الى مائدة اللئام . هذا الأمر ليس مصادفة عند بريمر بول الثالث بل انه تكرر في كتابات او مذكرات الصناع الاساسيين للسياسة الاميركية في عراق ما بعد الإحتلال ابتداءاً بدوغلاس فايث ومروراً بريتشارد هاس وانتهاءاً بكبيرهم دونالد رامسفيلد ، ناهيكم عن دزينة من الخبراء والسفراء والمدراء الذين ادلوا بدلوهم في بئر العراق السائب.
ولهذا نقول ان ليس علينا ان نتوقع من مثل هذا الفريق ان ينجز شيئاً للاعلام في العراق . كان فخارهم انهم الغوا وزارة الإعلام العراقية بوصفها اداة للدعاية الدكتاتورية ولم يقبلوا ان تعاد هذه الوزارة الى التشكيلة قط من دون ان يبرروا قناعتهم . وترك العراق وجمهوره الذي اعتاد على امتداد عقود طويلة ومتمادية من الزمن على ان يتلقى الاخبار والتعليمات والتوجيهات من الحكومة من دون اي موجه او منظم او مبلغ الامر الذي ترك جيش البعثيين في الاعلام صيداً لأعداء العهد الجديد الذي لم يكن له فم اعلامي ناهيكم عن انياب يعض بها غيره . وكما في السياسة والامن انخرط الإعلام في « المقاومة « المؤيدة وغير المؤيدة للعهد المباد والصداميين في البلدان العربية التي لم تقبل حقيقة سقوط النظام وانطلقت الى اسقاط بديله الأميركي المخلع الأوصال .
ولكن ما الذي حصل بعد رحيل الحاكم بول بريمر الثالث وانتهاء صلاحية وسلطة الإئتلاف الأميركية ؟ ماذا صنع العراقيون المعارضون لصدام والمناضلون ضد حكمه لعقود من الزمن بالإعلام ؟ هل انهم اصلحوا الحال او انشأوا مؤسسات بديلة تترجم الخطاب الجديد وترسم الملامح المميزة للعراق الديمقراطي التعددي الفيدرالي ؟ ابداً لم يحصل شيء من ذلك وبدلاً منه انشغلت الأحزاب في تقاسم المناصب الشكلية لهيئات الامناء في شبكة الاعلام التي اصر سايمون هاسلوك وانصاره العراقيين السذج على بنائها على خطى مؤسسة البي بي سي البريطانية وهيئة الإتصالات مثيلتها ، وعينوا على رأسها او في مجالسها ابعد الناس عن التخصص وعن الخبرات. عينوا اناساً لم يفهموا شيئاً عن العلاقة بين بنية المجتمع العراقي وبنية المؤسسات التي تعبر عنه . كانت هاتان المؤسستان مرتعاً للجهلة بتحديات الميدان الإعلامي جيء بهم للترضية ووفقاً للمحاصصة بعضهم لم ينه الدراسة الإبتدائية وبعضهم الأخر تاجر اطارات وخردوات لا يجمعهم الا تزكية القوى والكتل المتشاركة في الطبخات الحكومية .
لم تراجع الحكومة العراقية التشريعات المعمول بها في الإعلام بل اهملتها بعد ضمان تعيين بضعة مديرين عامين فيها وتركتها مثل زورق تائه يمشي ويبحر على هوى الريح ووجهتها . وتجاهلت السلطات التشريعية والتنفيذية واجبها في وضع الأسس الجديدة للمؤسسات الجديدة ـ القديمة حتى ان نقابة الصحفيين العراقيين العاملة حالياً ما تزال تعمل على وفق اهدافها المنصوص عليها في قانون عدي صدام حسين وهي: الدفاع عن مبادئ حزب البعث العربي الإشتراكي في الوحدة والحرية والإشتراكية . حتى اليوم لم يزعج احد من عباقرة البرلمان الصخابين نفسه في تشريع جديد ينفض عن هذه المؤسسة الكبرى غبار الفاشية والدكتاتورية فبقيت على هياكلها القديمة وانماط عضويتها السقيمة من دون ان يمسها احد . لقد انشغل مناضلو هذا العهد بالمكاسب والوفود والسفرات والمظاهر وبكل شيء عدا اصلاح المؤسسات الإعلامية .
قلنا ان ترك الحبل على الغارب في المجال الوطني دفع بالمئات بل الآلاف من صحفيي صدام ان يضعوا رجلاً في القارب ورجلا اخرى على الضفة فهم موظفون يتلقون رواتب من الدولة من جهة ويعمل غالبيتهم في مؤسسات مناهضة لها من جهة اخرى . تكفي عملية مراجعة لقائمة الموظفين والتدقيق في المؤسسات التي يعملون بها لتأكيد ذلك .
وزاد الطين بلة ان المال السياسي والولاء الخارجي استحدث عشرات بل مئات العناوين الإعلامية المرئية والمسموعة والمكتوبة والتي تستهدف اي شيء عدا بناء اعلام ديمقراطي جديد . هنالك اليوم عشرات الفضائيات الممولة من دول الجوار الغربية والشرقية تعمل على اغراق الوعي العراقي بسياساتها ورسائلها الإيديولوجية الطائفية والظلامية والتدميرية من دون ان يمسسها احد .
ونشأ في الفضاء العراقي اعلام مرتبط بقوى ميليشياوية تتجاوز السلطات الرسمية ولا تعبأ بها ولا بالدستور او الحقوق المنصوص عليها ولا بالحق الشخصي او العام مما حول العملية الإعلامية الى العمل تحت الخوف والتهديد والإعتداء . نحن لا نقصد فقط الإعتداءات التي تعرض لها صحفيون عراقيون ولا التهديدات الممكنة للمراسلين الاجانب ومساعديهم فقط ، بل الإعتداءات الكبرى التي تعرضت لها الصحافة العزلاء من السلاح والمستقلة والمحايدة. العام الماضي هاجمت اربع مجموعات مسلحة تعد بالعشرات بشتى الأسلحة البيضاء وغيرها وفي وضح النهار في بغداد، اربع صحف واعتدت على طواقمها بكل ما اوتي بيدها وانسحبت من دون ان يلقى القبض على واحد من المعتدين. وقبل اشهر تعرضت صحيفتنا الى اعتداءات بالقنابل والمتفجرات بعيد تهديدات اعلنتها ميليشيات معروفة الهوية وجهت التحريض ونظمت العمليات وتوعدت بغيرها وايضاً من دون ان تحرك الحكومة ساكنـاً.
ونظراً لهذا التردي الكبير في ظروف العمل ونظام الحماية والإحساس بالطمأنينة وغياب الشعور بالإنتماء لمشروع وطني واضح غادر العشرات من الصحفيين البلاد او انتقلوا الى اقليم كردستان ، او نقلوا عائلاتهم اليه في احوال اخرى ، وتضم معسكرات اللاجئين في تركيا رؤساء تحرير سابقين مع اطفالهم بإنتظار الفرج وقبولهم من قبل الأمم المتحدة كلاجئين يتطلعون الى ان يؤمنوا لأطفالهم حياة آمنة وبسيطة بعيدة عن العنف .
وفي عمان ولبنان ومصر عشرات غيرهم ينتظرون كاقرانهم يوم الفرج فيما يتلاشى الحلم العراقي ويتقطع مغمساً بالدموع والآهات والحسرات . ذلك ان وصول هؤلاء الصحافيين الى بر الأمان لن ينهي معاناتهم فهم غير قادرين على العمل في بيئات لغوية جديدة ولا يمتلكون فرص منافسة مهنية مع احد ولا بد لهم من البدء من الصفر لتشييد حياة ينقطعون فيها عن وطنهم الام وشعبهم .
اما اليوم فنحن امام ظلمات جديدة بعد ان خلطت داعش وحلفاؤها المحليون تراب الوطن بنثار الأحلام المحطمة واصبح الصحافي شاهداً على ذبح بقية البلاد على مذبح التقاسم للسلطات والأحلام الامبراطورية المستهلكة والطائفية الهابطة القيمة والمعنى . واصبح عليه ان يقبل تقسيم البلاد شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً . واضحى عليه ان يسمع اليوم من يقول ان نفطه لمدينته وحدها ولن يتقاسمه مع احد .. وآخر يطالب بتقسيم مجلس الوزراء على المحافظات وكأننا بحاجة الى خراب اكثر من خراب محاصصة الكتل السياسية .
ثمة صحفيون ضحايا كما هم ابناء بلدهم تماماً .. وآخرون كلامهم قاتل كالطلقات والمقذوفات المتفجرة .. وكل يوم يتسرب الصحفي الوطني والمستقل والمحايد والديمقراطي كما يتسلل الماء عبر ثقوب الأرض فيما تتزايد اعداد الصحفيين القتلة ويزداد صخبهم ..
ها قد اصبح الصحفيون الحقيقيون ايتاماً ..