حسن خضر
كاتب فلسطيني
* المقالة تنشر بالاتفاق مع جريدة «الأيام»
(القسم الثاني من مداخلة بروكسل):
ولكن ما السر؟ ولماذا نجح محمود درويش أن يكون ما كان؟
أعتقد أن السر يكمن في حقيقة الجمع بين الصوتين الفردي والجمعي، وأن كفاءة الجمع بينهما تمت في اللحظة والمكان المناسبين، وأن القدرة على صقل وتطوير عملية الجمع والتوليف، التي لم تتوقف حتى لحظة الشاعر الأخيرة على الأرض، هي التي أضفت عليه جدارة التحلي بصفة الشاعر القومي لشعبه، وبما أن الخاص والعام اجتمعا في بلاد اسمها فلسطين كانت على مدار سنوات طويلة قضية الحركة القومية العربية الساعية للاستقلال، والمناوئة للكولونيالية، أصبح الشاعر القومي لشعبه شاعر حركة التحرر القومي العربية. وهذا، في التحليل الأخير، ما منحه مكانة مرموقة في المشهد الشعري العالمي، أيضاً. فالكونية تبدأ، دائماً، من المحلي، والوطني، والقومي، إذا شئتم، بقدر ما في كل هذه المفردات من خصائص إنسانية، وجمالية، عابرة للغات، والثقافات.
لا يحدث، بطبيعة الحال، أن يحدّث شاعر نفسه: أريد الجمع بين الصوتين الفردي والجمعي. وحتى إذا حدث وغامر شخص ما بمجازفة كهذه، فهي ليست مضمونة النتائج في كل الأحوال. أراد محمود درويش في طفولته أن يكون فارساً، وأن يُسهم في إنقاذ شعبه، وفتنته قصص الفروسية، كما فتنته طريقة الجمع بين الحروف وتحويلها إلى كلمات. وفي سن مبكرة عندما ألقى في المدرسة «قصيدة»، أمام الحاكم العسكري، انتقد فيها مصادرة الأرض، وأنّبه المختار، (أو ناظر المدرسة) لا أذكر، وتجلّت إمكانية أن يتعرّض الأب نفسه للعقاب (حرمانه من الحق في العمل) كانت تلك لحظة فارقة في حياته، ولم يكن لها أن تكتمل من دون مشهد الأب الشجاع، الذي شد من عضد الابن.
كانت هذه الدراما التي اجتمع فيها العائلي بالفردي، على خلفية الحكم العسكري، والعيش كأقلية مُعرّضة للتهميش والتهديد، في بلاد ينبغي أن تكون بلاده، ولكنها ليست كذلك تماماً، العتبة التي عبرها الصبي لاكتشاف حقيقة أن تشكيل كلمات مُدهشة من حروف وأصوات لعبة خطرة، وأن اللعبة تمنح الهامشي والمُهمّش إحساساً بالكرامة، وأن الكرامة نفسها مُعدية، مادام أن في الإمكان إعمام الإحساس بالكرامة الشخصية على ما لا يحصى من الهامشيين والمُهمشين في بلادهم. هذا مدخل أوّل للكلام عن كفاءة الجمع بين الصوتين الفردي والعام.
وثمة ما يبرر الإشارة إلى التباس سيستمر على الأرجح مدة طويلة من الوقت. فالأم البيولوجية، أو المجازية (فلسطين) في عالم محمود درويش الشعري تحتل مكانة مركزية، وقد أسهم تحويل مارسيل خليفة قصيدة بهذا المعنى إلى أغنية في تعميم الالتباس. وأعتقد، استناداً إلى قراءة على مدار سنوات لمُنجز محمود درويش الشعري، وكذلك إلى أحاديث خاصة عن ذكريات عائلية، وعن سنوات التكوين الأولى، أن الشخصية المركزية هي الأب. لم تحدث، هنا، عملية قتل للأب بالمعنى الفرويدي، بل محاولة للتماهي معه، واستعادة كرامته. وغالباً ما اختلط الأب بالجد. وكلاهما أبٌ، وفي كليهما إحالة إلى مركزية الأب. يقول: «سأحملك كما كنت تحملني يا أبي، وسأقطع هذا الطريق إلى آخري وإلى آخره». هذا بوح حميم. وسيرة درويش الشعرية، والسياسية، حتى يومه الأخير على الأرض، محاولة مجازية لحمل الأب، وإنقاذه من مهانة اللجوء، وفقدان الكرامة والوطن، ومحاولة وجودية مؤلمة لقطع الطريق «إلى آخره» (أي استعادة الكرامة، ووطن الأب، إذا شئت) أو «إلى آخري» (أي ما تبقى له من أيام على هذه الأرض). وهذا ثاني المداخل للتفكير في كيف ولماذا اجتمع الصوتان الفردي والجمعي. بالمناسبة، كل ذلك الجيل من الوطنيين الفلسطينيين لم يقتل الأب بل تماهى وتعاطف معه.
والواقع أن تتويج المدخلين يتجلى بطريقة غير مسبوقة في «لاعب النرد»، وهي من القصائد الأخيرة، التي كتبها في «ربع الساعة الأخير»، وأراد لها أن تكون كشفاً للحساب. سأقتطف، هنا، مقطعاً أعتقد أنه يمثل اللحظة، والتجربة التكوينية الأهم في حياته، تجربة الخروج من البلاد، في حرب العام 1948، النكبة كما نقول، واللجوء إلى لبنان. يقول:
أَمشي / أهرولُ / أركضُ / أصعدُ / أنزلُ / أصرخُ / أَنبحُ / أعوي / أنادي / أولولُ / أُسرعُ / أُبطئ / أهوي / أخفُّ / أجفُّ / أسيرُ / أطيرُ / أرى / لا أرى / أتعثَّرُ / أَصفرُّ / أخضرُّ / أزرقُّ / أنشقُّ / أجهشُ / أعطشُ / أتعبُ / أسغَبُ / أسقطُ / أنهضُ / أركضُ / أنسى / أرى / لا أرى / أتذكَّرُ / أَسمعُ / أُبصرُ / أهذي / أُهَلْوِس / أهمسُ / أصرخُ / لا أستطيع / أَئنُّ / أُجنّ / أَضلّ / أقِلُّ / وأكثُرُ / أسقط / أعلو / وأهبط / أُدْمَى / ويغمى عليّْ.
مَنْ قرأ «لاعب النرد» يعرف ما وسمها من إصرار على ممارسة الاقتصاد اللغوي، والرمزي، وحتى العاطفي. وقد كان الاقتصاد اللغوي شغله الشاغل في سنواته الأخيرة، وفي سياق أسئلة مُعذّبة عن معنى الشعر، واللغة. ومع ذلك تجاوز هذا كله في المقطع المذكور في محاولة للقبض على لحظة التجربة التكوينية الأولى، الأهم، والأكثر مرارة، في حياته. فكل المفردات السابقة تتناوب فعل ملامسة لحظة واحدة، ومحاولة القبض عليها. وفي تكرار ووجع ولهاث المفردات ما يشي باستحالة المحاولة. مفردات تلك اللحظة لم تولد بعد. ولا توجد لغة يمكنها القبض على معنى النكبة في حياة ذلك الطفل، الذي من حسن حظنا، وحظها، أنه ولد في بلادنا وعاش بها ولها، وكان ما سوف يكون.
كلام في بروكسل ( 2-2 )
التعليقات مغلقة