I n S e c r e t
عبد السادة جبار
فيلم «في السر In Secret» (2013) هو الفيلم رقم 19 للمخرج تشارلي ستراتون، لكنه اختار هذه المرة رواية» تيريز راكان «للكاتب الفرنسي» اميل زولا «، وهي تنتمي إلى مرحلة أدبية نسجت خيوط بدايتها بعد منتصف القرن التاسع عشر وهي المدرسة الطبيعية في الأدب على يد اميل زولا وموباسان وهو يسمن، سيارد وغيرهم و قد طغت على المدرسة الواقعية، «وتجسدت في وصف التفصيلات النفسية الدقيقة لشخصيات بائسة تعاني أحياناً من الشهوات والفساد الأخلاقي، كما تعيش أحياناً في قاع المجتمع وتعاني من أشد أنواع البؤس» تلك المدرسة تعزو أسباب التحولات والتغييرات إلى الجانب الطبيعي في الإنسان الذي ينتج عن التربية والبيئة التي تراكم تفاعلات نفسية يفضي عنها ذلك السلوك المنحرف، أبطال هذا الفيلم أربعة فقط لكن حكايتهم تستغرق زمناً طويلاً يفرزون خلاله سلوكاً متغيراً ويعيشون أحداثاً من صنع أيديهم تنتهي بفواجع.
السيناريو
«» تيريز « طفلة عهد بها والدها إلى عمتها لترعاها بعد أن توفيت والدتها ليرحل هو إلى إفريقيا، تنشأ الطفلة اليتيمة في كنف العمة المتزمتة «مدام راكان « الممثلة (جيسيكا لانج ) لتتحمل وزر العناية بابن عمتها العليل، تعيش تيريز في ذلك الكوخ القديم في عزلة قاسية وتنمو مفاتنها ورغباتها من دون أن تجد من يطفئها، وتجسد ذلك الدور الممثلة (اليزابث أولسن ) وينقطع أملها بعد أن تعلم بوفاة والدها غرقاً وتضطر للزواج من ابن عمتها «كميل « الممثل ( توم فيلتون ) لتسجن أنوثتها في قفص الزوج العليل، إلا أن حدثاً جديداً يحطم قضبان ذلك السجن وهو حصول كميل على وظيفة في باريس لتنتقل العائلة بأجمعها إلى هناك لتتعرف على شلة أصدقاء يلعبون الدومينو في بيت العمة، إلا أن الرتابة لم تغادر تلك العائلة إذ يعود الزوج منهكاً من العمل لا يؤدي واجبه تجاه أنثاه وليس ثمة صلة عاطفية تربطهما، لكن كميل يلتقي صديق الطفولة القديم « لوران « الممثل ( أوسكار اسحق ) الذي تعرفه الأم مما يسهل دخوله مباشرة إلى البيت من دون موانع، وهو شاب رسام مملوء بالحيوية، يدخله كميل إلى العائلة ويستميل تيريز إليه بسرعة فائقة لتتحول تلك العلاقة إلى حب جارف وخيانة لا توقفها حدود أو احترام أو تقديس لتلك الروابط المقدسة، تنتهز تيريز أي فرصة لتلتقي لوران في أي زاوية أو أي مكان داخل البيت بوجود عمتها ووجود الآخرين أو حتى وجود زوجها وهو غافل أو منشغل بمكان ما أو في عمله، انه جنون العاطفة وانجراف الغريزة والجسد والحب المدنس الذي منح الشرعية له السجن الطويل أو الحرمان والكبت المخبوء تحت قشرة التقاليد، وفجأة تدفع الأقدار الأحداث إلى تطور خطير حيث يقرر كميل ترك باريس ليعود إلى القرية بعد أن سئم من المدينة الخانقة لمزاجه المتعطر دوماً بسبب مرضه وحالته النفسية، إلا أن ذلك القرار يقع كالصاعقة على رأس تيريز ولوران، وتصغي العاطفة المدنسة لخطط الشيطان ليتآمر الاثنان على إغراق كميل في أثناء خروجهم بسفرة نهرية ويعود العاشقان منتحبين ويتذرعان بسقوطه المفاجئ بسبب عدم وقوفه المتوازن في القارب وتنطلي الكذبة على الأم المسكينة، وتسكن الكوابيس حياة مدام راكان ولم تعرف السعادة أو تذق طعم النوم، وبعد مرور ثمانية أشهر يقترح الأصدقاء أن تتزوج تيريز من لوران ويسكنا معها كتعويض عن فقدانها كميل، فلم تجد غير ذلك المقترح كحل لاحتفاظها بابنة أخيها وصديق ابنها كمسليين لها في الباقي من حياتها وليرثاها كأقرب اثنين، ويتم الزواج ويعتقد الآثمان أنهما حققا ما يرومان له وسينعمان بالسعادة الأبدية، إلا أن شبح كميل يظل يطاردهما ويربك حياتهما لتتحول نظرة تيريز للوران وينقلب ذلك الشوق والحب الأول إلى تبادل التهم حول الجريمة، إذ لم يعد لوران ذلك الشاب الرسام الوديع، بل هو مجرم، ولم تكن تيريز في نظر لوران تلك الفتاة الجميلة الهادئة البريئة والمستسلمة لقدرها بل تحولت في نظرة إلى سبب لدفعه ليتحول إلى مجرم وسبب لذلك الحب المدنس، وهنا يشتد النزاع، ومما يعقّد الأمر هو إصابة مدام راكان بالشلل وتصبح واجبات خدمتها ثقيلة وسبباً للشجار وتكتشف تفصيلات الجريمة من المشاجرات لكن الشلل يمنعها من الكلام وتحاول أن تفهم الآخرين عن طريق الكتابة بصعوبة فيكتشفان الأمر فيحاولان إغراقها أيضاً، لكنهما في لحظة تكفير عن الذنب الكبير يتناولان السم وهما يحتضنان بعضهما ويموتان معاً.. والأم تتأمل النهاية وهي تحدق في السماء مؤمنة بتلك العدالة وذلك القدر.
المعالجة
في الواقع يجنح الفيلم إلى حد ما إلى الرومانسية على الرغم من محاولات منحه الطابع الطبيعي كنوع من الإخلاص لمدرسة الرواية الأصلية ( تيريز راكان )، والرواية قد مثلت بأكثر من عشرة أفلام وحتى السينما العربية قد تناولتها ولهذا لم تشكل حكاية الفيلم مفاجأة للمشاهد، لكن المخرج اعتمد في الواقع على التمثيل والتصوير إذ اجتهد في تجسيد التحولات الإنسانية ليثري مفهوم المذهب الطبيعي عبر اللغة السينمائية مفسراً اللغة الأدبية بتصوير التغييرات المفاجئة والاستجابات في الدواخل الإنسانية الناجمة عن التفاعلات السايكولوجية والمؤثرات المحيطية التي يؤكد المذهب الطبيعي في الأدب أهميتها، ومن هنا جاء إخلاص المخرج في تصوير فيلمه على الرغم من جنوحه أحياناً إلى الطابع الرومانسي، إذ لم يكثف تلك الانفعالات بقدر كاف حتى يتحول فيلمه إلى المذهب كلياً، لكنه نجح إلى حد كبير باستغلال تلك الطاقات الفعالة في التمثيل (جيسكا لانج، واليزابث أولسن، وأوسكار اسحق )، ليصور تلك التغييرات المفاجئة، الأم بأنانيتها المفرطة التي تضطهد فيها حياة تيريز لتسعد كميل بحبها المفرط، ثم نهاية ذلك الحب بموت كميل ومحاولة التعويض بحب آخر عبر الاحتفاظ بتيريز ولوران إلى جانبها، ثم تلك المشاعر المحبوسة داخل الجسد المشلول للانتقام من هذين المجرمين بعد معرفة الحقيقة، تيريز تلك الطفلة الهادئة المطيعة ثم الشابة المملوءة حيوية واندفاعا والطائعة لأوامر العمة القاسية ثم ذلك التهور الذي فرضته الغريزة والجسد ليتحول إلى الدنس وينتهي بمأساة كنوع من معاقبة الذات، ولوران الشاب الهادئ الفنان يتحول إلى الخيانة والإجرام ثم إلى وضع حد لقتل الوحش الذي سكنه وألغى ذلك السمو الذي تم تخريبه نتيجة لذلك التفاعل الغريب. جسد المخرج تلك الطبيعة البشرية تصويرياً ليقترب من الرواية التي قالت أكثر من ذلك طبعاً.
فيلم In Secret، تمثيل :جيسيكا لانج ، اليزابيث اولسن ، اوسكار اسحق
سيناريو واخراج : شارلي ستراتون عن قصة (تيريز راكان ) لاميل زولا