علي عبد العال:
علي حداد قاص وروائي عراقي مغمور على الرغم من إصداره الكثير من الأعمال المهمة على صعيد السرد والتوثيق، لكنه بالنسبة إليّ قاص وروائي عراقي مميز له تجربته العميقة الخاصة به، التي تلامس وتخص المجتمع العراقي بجميع حذافيره الشعبية والاجتماعية والإنسانية؛ لماذا هذا القول؟ لأنني قرأته بجدية. قرأت أعماله المتنوعة والخصبة منذ «التعيس الذي رأى نفسه» حتى «الغبار الذي لا غبار عليه». لا توجد نهاية للكاتب المبدع، لكن لنجعلها النهايات التي لا منتهى لها. في عمله «أيام كنا نحتال على الأشياء» يدخل علي حداد كأحد الموثقين لمرحلة سياسية إنسانية تاريخية زاخرة بالحيوات التراجيدية في سجون إيران كأسرى حرب عراقيين، وهذا نوع مختلف من التجارب الحيوية والمباشرة للكاتب. ربما هو الوحيد الذي قرأتُ له كتاباً يسجل هذه المرحلة الصعبة بتلك الحذافير الصغيرة التي هي وحدها من ينقل العالم المخفي ليجعله عالماً مفضوحاً مملوءاً بالبشاعة والظلم ومسخ الإنسان على هذه الجغرافية الموبوءة بالأمراض السياسية والاجتماعية الخطيرة التي تجعل من الفرد البشري عبارة عن حيوان يستحق التعذيب والترويع الفكري ومن ثم القتل المجاني تحت غطاء الدين.
كتب علي حداد بصمت وثيقة مهمة جداً في كتابه «أيام كنا نحتال على الأشياء»؛ هي لا تشبه الرواية ولا تشبه السرد الطبيعي، لكنها كتابة تجربة صادقة تقع ضمن ما يسميه النقد المعاصر «شهادة أدبية» لما كان يحدث للبشر خلف الحدود عندما يكون الإنسان مجرد أسير لا قيمة حقيقية له سوى ما يتوافر بالمواثيق الدولية البعيدة كل البعد عن أروقة الظلام الدامس الذي يحيق بأولئك البشر. لا يتوفر المجال للجميع، بل وحتى لبعض المختصين، بنقل تلك المشاهد اليومية بهذا الرصد سوى شخص مسؤول بتحمل هذه الخصوصية بإخلاص وواقعية تشبه الأفلام المصنوعة أكثر من شبهها بالواقع المرير.
يزورنا هذا المتأنق الجميل لبضع دقائق كجملة شعرية طائرة في الهواء البغدادي ثم يرحل عنا تاركاً جملة من العذابات الدفينة التي لم نخضع لها مباشرة إلا عن طريق كتاباته المتعلقة بأرض العراق عموماً وببغداد على وجه الخصوص. تلك العذابات التي تتجلى بأناقته الجميلة كإنسان جديد ينهض من الموت والخراب الذي ألمّ به قبل حين، وبأفكاره الغريبة البعيدة عن الواقع اليومي المباشر تارة، والتصاقة وتعبيره عن الواقع بسخرية فذة تارة أخرى. إنه يظهر وكأنه قادم من عالم آخر، بعيد كل البعد عن عالمنا الحاضر، بينما يلتصق براهنه اليومي وحياته البغدادية الأليفة كشاعر طائف لا يلوي على شيء في هذه الدنيا العجيبة. يأتي لدقيقتين، أو بضع دقائق في مبنى الاتحاد العام للأدباء ثم يرحل سريعاً كحلم تراجيدي جميل محطم حتى النهاية.
علي حداد واحد من العراقيين المبدعين الذين لا يتأملون بالنقد شيئاً مفيداً وسط هذا الجو الثقافي الرخيص. إنه روائي عراقي جاد، وقاص له الشأن بتسجيل مجريات الواقع بمتعة وأصالة وبديهة نابعة من قاع المجتمع البغدادي العريق.
كونه أديباً أصيلاً وملتزماً بقضايا أهله ومحيطه الاجتماعي استطاع علي حداد نقل صور واضحة عن طبيعة المكان والزمان لهذه المناطق البغدادية العريقة. منطقة باب الشيخ والكرادة داخل ومنطقة الفضل. تلك تمثل عالم هذا الكاتب الجميل المغمور حتى الآن.
ينطلق علي حداد من تجاربه الميدانية المعاشة بحذافيرها، تلك التي عايشها هو بالذات ليقدم لنا العالم المخفي من وراء تلك التجارب القاسية. إنها تجارب حقيقية وواقعية ينثال فيها الصدق كما الكلام المباشر الحزين والمضحك في الوقت ذاته.
علي حداد روائي وقاص مبدع له وثيقة أدبية جميلة وصادقة ستحتل مكانتها في المستقبل عندما يحين الصدق والتوثيق الجاد في عراق المستقبل.