عبد السادة جبار*
تتخذ قضية التلاقح الحضاري بكل جوانبها العلمية والثقافية والمعرفية أشكالاً متعددة على مر القرون منها ما جاء عبر الأسلوب القسري (الحروب والاحتلالات)، ومنها عبر التعاون الايجابي بواسطة (التحالفات والاتفاقيات)، لكن بعضها الآخر تم من خلال جهود فردية مميزة بعيداً عن السياسة والمصالح الدولية، وقد تعرض الشرق والعرب على الخصوص الى تغييب لدورهم الانساني في رفد الانسانية بالمعرفة والعلوم والانجازات الحضارية في مجالات الزراعة والطب والهندسة والرياضيات والفنون، الفيلم الألماني « الطبيب – ميديكوس « ينصف إلى حد ما مرحلة مهمة من مراحل التاريخ العربي الاسلامي ودوره في نقل العلوم الطبية الى أوروبا من خلال دور «ابن سينا» في تعليم شاب يهودي يجاهد من أجل تلقي العلوم الطبية على يديه في مرحلة مضطربة في بداية القرن الحادي عشر الميلادي مرحلة تغط فيها أوروبا في ظلام الجاهلية وهيمنة الكنيسة على الحياة وحرمان المتطلعين الى العلم واتهامهم بالهرطقة وعصيان الرب، المخرج الألماني «فيليب شتوتسل» قدم أول فيلم له مستنداً إلى رواية للكاتب الأميركي «نوح غوردون» الصادرة عام 1986، والغريب أن الرواية لم تلق رواجاً في أميركا إلا أن مبيعاتها في ألمانيا وحدها بلغت 6 ملايين نسخة، بعد ربع قرن من صدورها حاول المنتجون شراءها لتحويلها إلى فيلم سينمائي، غوردون رفض تحويلها للسينما؛ لأنه يخشى من التحريفات التي يمكن أن تطرأ على الرواية لأسباب تشويقية وتجارية خصوصاً من بعض شركات الانتاج التي يهمها التسويق أكثر من الموضوع وتعثر مشروع إنتاجها، المنتج الألماني فولف باور سافر الى غوردون واستطاع أن يقنعه بإنتاجها موافقاً على شروطه حيث يشرف بنفسه على كتابة السيناريو للحفاظ على محتوى الرواية، المخرج شتولتسل يعبر عن اهتمامه بالفيلم بالقول: «نميل هذه الأيام لحبس الدول العربية في فترة القرون الوسطى»، ويضيف أيضاً: «من الأجدر أن نفكر بأن الثقافة والكثير من الأمور التي نصفها اليوم بالمتقدمة، هي مأخوذة في الأساس من العرب.. الكثير من الأشياء التي ننظر إليها اليوم كجزء طبيعي من حضارتنا، جاءت في الأصل من العالم الإسلامي».
سيناريو الفيلم
نحن في انجلترا، مع عمال المناجم من رجال ونساء وأحداث فقراء جياع يبيعون جهدهم من أجل لقمة الخبز، الطفل جرمي كول صبي يعيش مع والدته وأخويه الصغيرين، تمرض الأم وتموت ليتفرق الأبناء، حيث يعيش جرمي مع حلاق (الممثل السويدي شتيلان سكاسكارد) مهمته أن يشفي المرضى بطرائقه البدائية، يكبر جرمي معه (الممثل الانجليزي توم باين) ويساعده ليتعلم منه، لكن الكنيسة تعد عمله نوعاً من الهرطقة والكفر فتحاول حرقه، إلا أن كول ينقذه وفي أثناء تجواله يتعرف على أطباء يهود يكتشف انهم أكثر تقدماً في مجال شفاء المرضى يسعى للتعلم منهم، غير إنهم لا يسمحون له بوصفه مختلفاً عن دينهم، يدله أحدهم على مصدر علمهم وهم المسلمين في أصفهان وعلى رأسهم كبير الأطباء ابن سينا، لكن عقبتين تعترضانه بعد المسافة والدين، فالمسلمون لا يقبلون المسيحي لكنهم يقبلون اليهودي، يغيّر اسمه الى بينيامين ويثابر للوصول الى أصفهان، يتعرف في طريق مسيرته على فتاة يهودية تم جلبها لتتزوج تاجراً يهودياً يتعلق بها، لكنهما يفترقان بسبب عاصفة رملية شديدة يصل الى أصفهان ليجدها هناك قد تزوجت، يواجه وضعاً سياسياً مضطرباً، إذ أن الحاكم فيها يمارس الظلم ويعاقر الخمرة والسلاجقة على الأبواب يهددون الدولة بالتآمر مع المتطرفين في الداخل أولئك الذين يكرهون العلم والتطور العلمي، الا أن كول يقابل «ابن سينا» الممثل (بن كينغسلي) ليجد الازدهار والتطور الكبير، حيث يتعلم الكثير الا انه لم يكتف بذلك، ويواجه هو ومجموعة ابن سينا مرض الطاعون الذي يبثه السلاجقة في البلاد والذي يحصد المئات، غير إنهم يتمكنون من القضاء عليه مما يزيد حقد المتطرفين على مدرسة ابن سينا، تستمر علاقته مع الفتاة اليهودية وتتطور أكثر بعد أن ينقذها من الطاعون، ينمو طموح كول ليقوم سراً بتشريح جثة أحد المتوفين، إذ يرسم بدقة تفصيلات الأعضاء الداخلية ويكتشف الأمر المتربصون بهم ليجدوا في ذلك فرصة للانتقام من مدرسة ابن سينا، وهنا تقام محكمة دينية ليصدر الحكم بقطع رأسيهما بوصفهما يرتكبان جريمة التمثيل بالجسد، يقف الحاكم بصفهما لكنه يصاب بمرض مميت، وقبل التنفيذ ينقذ حراس الحاكم جرمي وابن سينا ليجريا له أول عملية جراحية لإنقاذه تنتهي بالنجاح، في حين يشيع المتطرفون الفوضى ويحرقون المدرسة ويواجه جيش السلاجقة جيش البلاد. ينتهي الأمر باحتلال السلاجقة البلاد ويقدم المتآمرون ولاء الطاعة للمحتلين ويبقى ابن سينا في مدرسته وهي تحترق ويغادره كول مع فتاته حاملاً معه علم وتجربة ابن سينا لبلاده.
المعالجة
في الواقع ليس من السهل نقل تفصيلات رواية تقع في 900 صفحة في فيلم يستغرق 150 دقيقة، كي تتحقق من خلالها رؤية الكاتب مثلما أراد، علماً ان المدة الزمنية للحكاية يبلغ نحو أكثر من عشرين سنة، ومن المؤكد ان الكاتب قد حمل روايته رؤيته عن الحكم والدين والعلم واختلاف المكان وأفكار انسانية وفلسفية أعمق مما ورد في الفيلم، نجح المخرج الى حد ما في الإشارة الى بعض منها بقدر يمكن عده ايجابياً ويمثل علامة مميزة لهذا الاعتراف بدور المسلمين أو الشرق في الحضارة على الرغم من انه لم يشر الى العرب في الفيلم، صور فيلمه بقدر كبير من الواقعية في المناظر والأمكنة (ألمانيا، ومصر، والمغرب)، واهتم بالأزياء بنحو خاص، كان قريباً من أساليب الانتاج الكبيرة، حرص المخرج -ويبدو ان ذلك من شروط الكاتب- على أن يدين السلطة الدنيوية والدينية في أوروبا وفي الشرق على حد سواء في ذلك العصر متمثلة بالكنيسة والمتطرفين، لكن كل منها في جانب ما، الكنيسة بالتجهيل والتكفير، والتطرف الديني في الشرق بالتآمر على الدولة وايقاف حركة العلم والتشكيك بأي منجز خارج تفسيرهم، وادانة السلطة من خلال لهوها وغيها، إلا أن الفيلم يؤكد التلاحم الديني والصداقة بين الأديان من خلال الوعي المعرفي والخدمة الإنسانية ليدلل على إن الحوار الحضاري لا يمكن أن يتم من خلال السلطات بل من خلال العلماء والمعرفيين أنفسهم، فالفيلم يماهي بين أوروبا والشرق بمعنى التخلف على مستوى عموم الناس، الا انه في نهاية العرض يصور انهيار الشرق في الحروب والتآمر ويمضي كول بالعلم الى أوروبا الجديدة.
فيلم El-MEDICOS، تمثيل: بن كينغسلي، توم باين، شتيلان سكاسكارد
إخراج: فيليب شتوتسل/ عن رواية: نوح جوردون