الحصار

محمد زكي ابراهيم

ربما لا يوجد بين شعوب الأرض مثل شعب العراق، يتحسس من مفردة الحصار، ويتطير مما توحي به من شؤم. فهي لا تثير لديه الحزن، وتبعث في قلبه الأسى، فحسب. بل تستدعي كل معاني الجوع والعري والفاقة والمعاناة، التي ذاقها خلال عقد التسعينات. وقد يحتاج إلى وقت طويل حتى يتخلص من هذا الشعور المفعم باللوعة، والمغموس بالفجيعة.

والواقع أن الحصار الذي وقع العراقيون تحت طائلته لم يكن مفروضاً من الخارج فقط، بل كان هناك حصار داخلي، أكثر منه إيلاماً. وقد تداخل الاثنان معاً حتى باتا قدراً مفروضاً، ليس إلى الخلاص منه سبيل. وربما كان احتمال الأذى الخارجي هيناً، لو لم يجد له من يؤازره في الداخل.

ويبدو أن الحصار بكل أوجاعه لازمة من لوازم الحياة في هذا الجزء من العالم. لكن ما اختلف هذه المرة هو الأدوات التي جعلت منه ظاهرة شديدة الوطأة، بالغة التأثير. وقد حفظ لنا التاريخ الكثير من “الحصارات” التي ضيق فيها الخناق على الناس، بجيوش جرارة أحاطت بالمدن، ومنعت اتصالها بالخارج. ومن أجل ذلك بنوا الأسوار وشادوا الحصون وأقاموا القلاع، وحفروا الخنادق. ولم ينتبه المحاصرون إلى أن هناك أعداءً لهم في الداخل، تسللوا إلى المنطقة في غفلة من أهلها في عصر الامبراطوريات القوية. حتى إذا ما استردت أنفاسها في وقت ما، وجدت أنها ابتلعت الطعم، وغدت غير قادرة على التفكير أو المراجعة أو الحركة. وبقيت لقرون أسيرة الخوف والجمود والتواكل.

في وقت مبكر بعد أفول عصر الحضارة الإسلامية بدأت التكوينات الاجتماعية التقليدية تضرب بجذورها في الأرض، وتتوغل في منطقة اللاوعي. فهي لا تستطيع أن تتصور نفسها دون عدوان خارجي يستهدف محو هويتها الخاصة. فأخذت تنكمش على ذاتها، رافضة أي تأثير خارجي. وهكذا بدت العشائر القاطنة في الأرياف والبوادي وأطراف المدن غير قادرة على الخلاص من السنن التي ورثتها عبر القرون. لقد توقف الزمن لديها على حين غرة. ولم تعد عقاربه قادرة على الدوران. ليس هذا فحسب بل أن الطوائف والزعامات والأسر والقوانين الاجتماعية، باتت تخضع لذات المنطق. فهي تمنع الفرد من الخروج إلى دائرة الضوء، وتحرم عليه التفكير في تحطيم هذه الأغلال، وتحول بينه وبين أي نهضة ثقافية تصنعها المتغيرات الجديدة في العالم.

ربما ماتزال القيم المتحجرة تعيش حتى يومنا هذا في المدن والمدارس والجامعات والمؤسسات الصناعية والخدمية. فلا تدع أي مجال لثورة فكرية أو تنموية أو علمية. وتجعل التنظيمات الفوقية التي أقيمت في غفلة من الزمن، مثل المجالس التشريعية والتنفيذية، عاجزة عن إحداث أي تغيير حقيقي!

 حينما تفلح النخبة في فرض رؤيتها على المجتمع، وتشرع في هدم البنى الاجتماعية التقليدية، فإن الحصار الطويل الأمد سيتآكل لا محالة، ويصبح أثراً بعد عين. فهذا هو منطق التاريخ في كل زمان ومكان.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة