د. صباح التميمي
ليس النقدُ بالعلم الموضوعي الصّرف، الذي يبني نظريتَه على ثوابتَ علميةٍ عمليةٍ قائمةٍ على التجربةِ المختبرية أو المعادلات الحسابية الدقيقة، ومهما قيل ويُقال عن محاولات تقريبِه من منطقة التجريب المخبري العلمي الصّرف، فإن ذلك سيكونُ ضربًا من التعسّف، فهو اشتغالٌ نسبي يمارسُ المشي في أرضٍ من رمالٍ مُتَحَرّكة، هي النص، وهي نسبيةٌ السّطح والعمق أيضا، قد كوّن العقلُ الجمعيُّ بطريقة تراكميّة أعرافًا وتقاليدَ جماليةً لها، ولأنها أعراف تنتمي للجمال الذي هو نفورٌ عن الثبات، وصدورٌ عن التحوّل والتبدّل، فهذا أفضى بها إلى أن تكون مزاجيةً، موسميةً، متغيّرةً، تتبدّلُ بتبدّل رياح الخطاب النقدي الموسمية، فتميلُ حيثما مالت، ومع مرورِ الزمنِ طوّرت – أعني المعيارية العرفية – قابليةَ تغييرِ اللونِ والهيئةِ والوظيفةِ تبعا لتغييرِ مواسمِ نضجِها الثقافي، فقد تمرُّ بخريفٍ ثقافي، تصبحُ معه جرداءَ يجفّ ماؤها وتتساقطُ أوراقُها، وقد يأتي عليها ربيعٌ ثقافيٌّ يُنعشُها وتنشطُ فيه، فتقتربُ من فاعلية الموضوعي، وتكادُ تغادرُ النسبي، إلا أنّها خُلقت لتتلوّن بتلوّن فصول السنة الثقافية، ومن هنا فإن الناقدَ وما يصدرُ عنه انتماءٌ للنسبي، على الرغم من أدوات الموضوعي التي يتسلّحُ بها، غير أن نسبيتَه هذه أقلُ وطأةً من نسبية النص الصادر عن نسبية موضوعة الجمال نفسها، فهو يحملُ في مخلاتِه الثقافية صافرةَ رجلِ مرورٍ (معايير جمالية) ويستعينُ بإشارات مرورية (نظريات نقدية ومناهج) ليحاولَ أن يُنظّمَ سيرَ النصوصِ فيوقِفُ هذا، ويفتحُ الأفقَ المروري لذاك، تبعًا لمنطلقات مهنتِه الوصفية، التي هي مهنةٌ فنيةٌ معياريةٌ تقدّمُ خدمةً لمجتمع النصوص، فتُنظّم فوضاهُم، وتعدّلُ مساراتِهم، وتحافظُ على سير حياتهم بطريقة سلسة، تضمنُ لهم حقوقَهم، فتعاقبُ المخالفَ، وتمنعُ إشاعةَ الفوضى، ومخالفةَ النظام العام، والتعدّي على الأمن الفني.
إن وجودَ رجل المرور هذا لا سيما الذي يحترمُ أخلاقياتِ مهنتِه، ولا يتعاملُ بالرشوة، ضرورةٌ صحيّةٌ فاعلةٌ، تُقلّلُ من حوادثِ السير الفنية بين النصوص، وتستبعدُ الطارئَ والطفيليَّ من الشارع الثقافي، وتحاولُ أن تمنحَ الحقيقي رُخَص قيادة، تُمكّنه من البقاء والتأثير والديمومة والديناميكية الحُرّة، وهذا يمنحُ رجلَ المرورِ هذا سلطةً نسبيةً تأتّتْ له من احترامِه لأعراف التلقّي العامة، وصدورِه عنها، مع ما يمتلكُ من حِرَفيّةٍ عالية، ومهنيةٍ بيضاء، ينجحُ بوساطتِها في خلقِ مساحاتِ رضا وقبول، في مشهد التلقي العام والخاص (النخبوي).
لكنّ مجتمع النصوص هذا، ميّالٌ للفوضى بطبعه، ينشدُ الحريةَ ولا يُفرّقُ بين السلبية منها والايجابية، وينفرُ من التقنين والتقعيد، فيخرجُ عن القانون، ويضربُ إشارات المرور، ويحاولُ دائمًا خلقَ مناخاتٍ جديدةٍ، يبتعدُ فيها عن الثابت، ويخرجُ عن قوانين الجمال وأعرافِه، وهذه الخروقات المتكرّرة، شرّعت الابوابَ أمامَ طفيلياتِ الكتابة، وأتاحت لهم فُرصَ العيشِ الطفيلي في أجواء هي في الأساس ليست لهم، لكنّهم تحت جنح الفوضى، والانفلات، دخلوا في الوسط، واعتاشوا على فتات الراسخين فيه وناموا وفرّخوا في جلودِهم، وبمرور الزمن شكّلوا قاعدةً جماهيريةً أسهمت بفاعلية في تثبيتِ أقدامهم، ومنحتهم رُخص مرور مزيّفة، وإذا حاولُ رجلُ مرور جادٍ أن يُوقفَ تكاثرَ هؤلاء الطفيليين جُوبِهَ بموجةِ رفضٍ عارمةٍ، بحُجة فسحِ المجالِ للطاقات الشابّة والوجوه الجديدة، ومن هنا صارَ هذا الرجلُ (الناقد) مظلومًا مُهتَضَمًا إذا سارَ عكس التيار ونادى بإبعاد هذه الطفيليات .