محمد زكي ابراهيم
لقد قيض لي في وقت من الأوقات، أن أطلع على قائمة غير يسيرة من الأسماء اللامعة التي خسرها العراق وهي في منتصف الطريق، بعد أن طحنتها الحاجة، وأذلها الفقر، وقضى عليها الحرمان. وكانت قادرة على إحداث نقلة نوعية في المجتمع بسبب ما تمتلكه من قدرات عقلية. ولم تلبث بعد سنوات قليلة، أن طواها النسيان، وأنكرها الناس.
ومن الغريب أننا ما نزال نعتقد في هذه المرحلة المتقدمة من التاريخ أن الثورة هي الخروج إلى الشارع، أو الانقلاب على السلطة. رغم أن كل ما نفعله هو الإتيان بحكام جدد لا يختلفون عن أسلافهم في شئ. ونجهل أن الثورة الحقيقية هي تلك التي ينهض بها أشخاص قادرون على صنع مفاهيم جديدة، تستبدل نمط الحياة بآخر، وتتيح للمجتمع أن يهنأ بعيش أفضل. فاختراع المطبعة أو المحرك أو الحاسب الآلي، مثلاً، كانت انتفاضات كبرى قام بها أشخاص ملهمون، قلبوا الموازين، وأوجدوا عالماً جديداً، مختلفاً تمام الاختلاف عن سابقه.
ومن أجمل ما قرأت في هذا المعنى، أن العالم المصري النابغة علي مصطفى مشرفة (1898 – 1950) كان ما يزال طالباً في إحدى الجامعات البريطانية حينما اندلعت ثورة 1919 في بلاده بزعامة سعد زغلول. فكتب الطالب إلى أحد قادة الثورة وهو محمود فهمي النقراشي يخبره برغبته في العودة لمصر لغرض المشاركة في الثورة. فرد عليه النقراشي قائلاً : “نحن نحتاج إليك عالماً أكثر مما نحتاج إليك ثائراً. أكمل دراستك فإنك تستطيع أن تخدم مصر في جامعات انكلترا أكثر مما تخدمها في شوارع مصر”! ولم يخيب علي مشرفة رجاء النقراشي، إذ أصبح من الطبقة الأولى من العلماء في النصف الأول من القرن الماضي. وقدم إسهامات بارزة في الفيزياء النظرية، جنباً إلى جنب مع كبار الأساتذة في حينه.
إن هذه العبارة تصلح أن تكون منهاجاً وسنة لكل شاب وشابة ليس في مصر وحدها بل في الدنيا بأسرها. فالنقراشي (الذى تولى رئاسة الوزارة في ما بعد) أدرك بثاقب نظره أن الثورة الحقيقية هي التي تولد في المعامل والمختبرات وقاعات الدرس، وليس في الشوارع والطرقات، التي تتجه إليها الأنظار كلما نزلت بالبلاد نازلة.
لقد أدت البحوث التي نهض بها أشخاص ملهمون إلى ثورات اجتماعية مختلفة، ومذاهب أدبية متعددة. فولدت الرومانسية والواقعية والرمزية والسريالية، ونشأت الحداثة وما بعد الحداثة، ومازال هناك الكثير الذي ينتظر دوره في قادم الأيام.
ربما لن نتمكن نحن في هذه البلاد من إنتاج نماذج ثقافية جديدة، ما لم ندعم التنمية، ونقضي على البطالة، ونتخلص من الفقر. حتى إذا ما تحقق ذلك، انطلقت العقول من محبسها، وبدأت تعطي ثمارها في كل مجالات الحياة. فالإنسان هو القيمة العليا في هذا الكون. وليس هناك خسارة يمكن أن تحل بالمجتمع أكبر من التفريط به، أو التهوين من شأنه، أو إذلاله، بأي شكل من الأشكال.